أنت هنا

قراءة كتاب الحاسة صفر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحاسة صفر

الحاسة صفر

"الحاسة صفر" يتناول فيها تجربة خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي صيف عام1982 وما تلاها من تشتت المقاتلين الفلسطينيين في منافي الدول العربية وانهيار خيار الكفاح المسلح من أجل استرداد فلسطين.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3
ثمَّة ما دار بينهما في الخفاء، ثمَّة ما كانا يعرفانه ولا نعرفه نحنُ الصِّغار، انفجر يومئذ في وجهها كالمجنون، بكى، وحطَّم كلَّ ما وقعت عليه يداه، طردتنا هي إلى الشَّارع، وحين عُدنا كان ذابلاً، شاحباً، مهدَّماً، وفي الصَّباح الباكر مات.
 
عند الظُّهر جاء عيسى، كان يومئذ لا يزالُ في قواعد الأغوار، سارت الجنازة ببطء، وكان جسده أَوَّلَ جسدٍ أراه يوارى التُّراب، قبل أن تنفجر عمَّان.
 
عبثاً حاولت أن أعرف بعدها ما جرى يومئذ بالضَّبط، كنت أسألها فلا تجيب، كانت تكتفي بهزِّ رأسها بأسى، وتبكي حتَّى أتمنَّى لو أنَّني لم أسألها قط.
 
كانت تحترفُ البحث والصَّمت والانتظار.
 
أصابتها الحُمَّى وراحت تهذي بعد أن نبشت قبور الشُّهداء في جرش بالسرِّ، وعلى عكس ما توقَّعَتْ من أنَّها ستجدُ الجُّثث ما زالت غارقةً بدمائها، وَجَدَتْ أكواماً من العظام في قبورٍ لم تتَّسِعْ لساكنيها....
 
الدُّود كان قد التهم لحمَ الجَّميع، ولم يبق إلا بقايا الملابس، وقطع السِّلاح الَّتي أكلها الصَّدأ، وأحذية الكتَّان الخضراء، والعظام.
 
لم تستطع أن تتخيَّلَ هولَ المشهد المجنون، ركضنا بها إلى المشفى، ثم درنا بها بين طبيب وآخر، وأخيراً عدنا بها عمياءَ على كرسيٍّ متحرِّك
 
ما عاد بوسعها أن تُسافرَ إلى أيِّ مكان
 
أسدلنا السِّتار على عيسى، وظننَّا أنَّه غاب إلى الأبد، وكان عليَّ أنا الَّذي أنهيت دراستي الثانويَّة عامذاك أن ألتحقَ بجامعة اليرموك، لولا ظهور رجلٍ مصادفة أكَّد جازما أنَّ عيسى خرج معه من جرش إلى دمشق، ومن دمشقَ إلى بيروت، وأنَّهما خدما معاً في صفوف الثَّورة في الجنوب، ثمَّ اختفى عيسى فجأةً بلا أثر، ولم يعد الرَّجل يعرف شيئاً عنه بعد ذلك، حزمتُ أمتعتي تاركاً شقيقي سامي الَّذي يصغرني بعام، وشقيقتي الصَّغيرةَ خلود وحدهما مع أُمِّي، وركبت الحافلة في اليوم التَّالي إلى دمشق، قاصداً بيروت الَّتي كانت تئنُّ تحت الحصارِ في ذلك الصَّيف المشتعل الطَّويل.
 
* * *
 
كان عيسى قد التحق بالثَّورة منذ انطلاقها، غادر البيت ذات مرَّة ولم يعد إلاّ بعد شهور طويلة، ثمَّ عاد ليغادر من جديد، كانت أُمِّي كثيراً ما تذهب لزيارته في الأَغوار، كنَّا صغاراً آنذاك، لا نعي معنى الثَّورة، وفلسطين، لكنَّا كنَّا نحبُّ رؤيته لكثرة ما كان يشتري لنا من الدُكّان المجاور أشياء نحبُّها، ونتأسَّف لأَنّه لم يكن يمكث طويلاً، كان يأتي يوماً أو يومين ثمَّ يعود ليغيب شهوراً من جديد.

الصفحات