"اكتشاف زقورة"؛ في هذا العمل للروائي العراقي فاتح عبد السلام، يتعشق السردي بالشعري، ويرتقي النص عبر فيض الشحنة المخضّبة بصوت تاريخ العراق القديم.من بقايا الحروب يأتي بطل الرواية ليبدأ حياته من حيث انتهى جسداً متفسّخاً على سرير في غرفة منسيّة، عبر رحلة مضنية
أنت هنا
قراءة كتاب اكتشاف زقورة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 9
عند عتبة الوهج الخزفي رأيته حقيقةً أو رآه الطبيب·· لا خلاف الآن لقد توحدنا من أجل ذلك المشهد· أجل رأيته حقيقةً لا يشبه صورهُ التلفزيونية أبداً· حقاً إنّها ليست رؤيا· كان رجلاً تتكسر الخزفات في صوته، ممدداً في ريشة طائر خرافي ، كلّما تجيئه نوبة الألم يمسك بغيمةٍ فوقَ رأسه يثقبها فتنزف حتى تغيب· قلت لحرّاسه هي هستيريا الهزيع الاخير· قالوا لانفهم· قلت هستيريا الطلق· قالوا لانفهم· قلت على هذا الجسد رجفة السلالات المنتحرة والجيوش المهزومة في عرائنها والميلاد الموؤود في أعماق الغبـــش الريفي· كادَ الدم يطفر من عينيه، وتعجبت في سرّي : أهذا وحيد السيف وحيد الترس وحيد الصبح وحيد الليل وحيد أور وحيد بابل وحيد السلالات الجبلية وسلالات الغِلال ومفارش العرائس والانهار والمخاوف والابتهالات· الزرقةُ تتموج كحصان في هضبتي وجنتيه ويكمد الصفار في جبينه· اجتثّ الطبيب الراعي من عبّه نباتاً قلوياً رشَّ عليه الماء والزعتر والكمّون، ووضعه في فمه المقفل كزنزانة في صعوبة ، فلاكه نجم الثريا في ايقاع بعيري مالبث أنْ تقيأه·
فزع حرّاس الزقّورة وهمّوا بضربه بالفأس المقدّسة، غير انّ غيمة الصحو مدّت أطرافها في وجهه فعادت الطمأنينة الى هياج الحرّاس· وفرحوا للشفاء السريع الذي أنقذ سيدهم· كانوا قد اعتادوا على نوباته الهستيرية ولكنها اليوم نوبة ثقيلة قرأوا فيها ملامح وجه جديد تظهر من دخان القصر الكبير·
كان كل شيء يسير عادياً في العلاج حتى دوّت المفاجأة حين أمسك راعي العشبة بكتفيه في رقة وخشوع وخوف ، وحاول إراحته على وسائد نسيان عنبري ، فلمح لمحَ الخيالات السريّة المطفأة خصلةَ شعر ذهبي أنثوي مغطاة بلحاف طويل مثل وشاح أكدي موشّى بالنمنم والقصب الوردي· وفي لحظة هَتَفَتْ مثل لحظات الأحلام النادرة أبصرتُ معه خنجراً قيصرياً ذا مقبض عاجي يفجّر بقعاً من دم يرســـم شقائق صغيرة تنبت في صمت أبديّ عند حافات ألم منسيّ كانت حين تعصف برأسه أثناء معاشرة الفراش ، يتناول خنجرهُ وينسى أي شيء· لم يذكر رواة هذا الحلم انّه كان مكتوباً على المقبض العاجي الملك لله· غير انَّ مزوري التاريخ وسارقي الجغرافيا كانوا قد دسّوا سمومهم في حقب سلجوقية وعيلامية وهولاكية و······الخ ، طعنوا في قواه الجنسيّة·
منذ ذلك الابصار الممنوع اختفى الطبيب واختفيتُ أيضاً لأنني أبصرتُ معه· تحت جلود غير جلده وفي رؤوس تنتسب لرقاب غيره وفي أسفار سلالاتٍ زقّوراتها عالية بعيدة غريبة ، وحصونها ليست في متناول منجنيقات أولئك الحرّاس· أقنع نفسه أنّها كانت رؤيا ظالمة ادلهمت عليه فيها ذنوبه الزائدة· غير أنّه ظل هارباً من رؤياه· يهرب كل لحظة هروبٍ هروباً جديداً· ملاحقة في انحدار ، ملاحقة في تسلّق· ملاحقات في زي نسوة دميمات أو في ثياب معروقة بكدّ أصحابها· آجّر الأبنية وأصباغها وبناؤها ويافطاتها وروّادها وحافلات الشوارع وباعة الطريق والمحطات الكئيبة وحلقات الذِكْر ومباهج الناس ، ينتظـــمون جميعاً في ثياب مخبر ، ويلاحقونه· أحياناً يتركونه أمامهم يمشي دقائق ثم يطاردونه فيجري مشتعلاً بخوف مسلول من حصارات قديمة ودمامل محتقنة وسلاحف حاقدة على الغزلان·