أنت هنا

قراءة كتاب البئر الأولى

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البئر الأولى

البئر الأولى

كتاب "البئر الأولى، فصول من السيرة الذاتية"، يقول المؤلف جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة كتابه: أنا لا أكتب هنا تاريخاً لتلك الفترة· ثمة من هم أعلم، وأجدر، وأبرع مني في سلسلة ووصف أحداث العشرينات وأوائل الثلاثينات في فلسطين· ولا أنا أكتب هنا تاريخاً لأسرتي، لأن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3
مقدّمة
 
هذه البئر الأولى
 
كلما أردنا التحول إلى دار جديدة نسكنها، كان أول ما نسأل عنه هو البئر· هل توجد بئر في حوش الدار؟ هل هي عميقة؟ وفي حالة جيدة؟ هل ماؤها طيب؟ أم أنها لم تُنزح من طينها منذ سنين؟
 
كانت الآبار أنواعاً، بقدر ما كانت الدور· وكانت خرزاتها أنواعاً كذلك· وخرزة البئر أشبه بسجل تاريخي للدار وبئرها معاً: مع تقادم السنين، تترك حبال الدلاء، وهي تُنزّل في البئر وتُصعد، آثارها في فم الخرزة، فتصقله أولاً، ثم تحفر فيه أخاديد تعمق مع مضيّ الزمن، وتتكاثر·
 
أما الآبار التي تركّب على كل منها قوس من الحديد تتوسطها بكرة، يُنزل الحبل بها ويُرفع وهي تقرقع، فكانت قليلة، ولا توجد إلاّ في الدور الكبيرة التي ينعم أصحابها بشيء من الرفاه، وتنزل المياه إلى آبارهم من على السطوح بأنابيب مدفونة· وقد تركّب على هذه الآبار المحظوظة مضخّات تُغني أهليها عن الدلاء·
 
غير أن الدور التي كنا نأوي إليها كانت دائماً من النوع البدائي: ينسكب ماء المطر من مزراب سطح الواحدة منها إلى الحوش، ويلتقي بما ينحدر من تجمّع الماء في الحوض نفسه، وتصب المياه كلها في حفرة لا يزيد عمقها على المتر الواحد قرب البئر، وعلى ارتفاع قليل من قعرها مسرب يتصل بباطن البئر· ففي هذه الحفرة تترسب الشوائب الطينية التي تحملها معها مياه المطر المنصبّة فيها، قبل أن تدخل إلى المسرب الذي يؤدّي بها إلى أعماق البئر، وقد صُفِّيت قليلاً· ولكن التصفية لن تتمّ إلاّ بعد أيام، إذ تترسّب الشوائب الطينية وغيرها مرة أخرى إلى قاع البئر نفسها·
 
ولذلك كان لا بد من تنظيف البئر، كلما مرّت عليها بضع سنوات، من الرواسب المتراكمة·
 
آبار كهذه هي التي حفظت الحياة في المدن والقرى في المناطق الجبلية من فلسطين طوال العصور، حيث كان الاعتماد كلياً على أمطار الشتاء، التي تسقي بهطولها الحقول المزروعة بالقمح والشعير والذرة، كما تسقي الوديان والروابي الملأى بأشجار الزيتون، والمشمش واللوز، ودوالي العنب، وتحفظها الآبار للشرب والسقاية لبقية مواسم السنة· (أما بيارات البرتقال، فهي في السهول المحاذية للسواحل، ولسقايتها وسائل أخرى منتظمة) ومحظوظة هي القرى التي تنعم بعينٍ، يكون ماؤها في صفاء البلّور، وبرودة الجليد·
 
ولئن كنا نحتفظ بالماء في الزير في ركن من الدار، فنغرف منه بطاسة كلما أردنا الشرب أو الطبخ، فإن ماء البئر، أيام الحر، هو الذي نصعده بالدلو، لكي نشربه بارداً منعشاً· وفي أيام الشتاء، يبدو ماؤه أقل برودة من ماء الزير· وحواكيرنا نسقيها من ماء البئر· وإذا نضب هذا الماء، وجب علينا أن نشحده من آبار الجيران، أو أن نشتريه من السقّاء الذي كان من شخصيات بيت لحم التقليدية في تلك الآونة، وبخاصة في الأحياء القريبة من عين القناة، تلك العين التي تجري مياهها من الينابيع الجبلية التي قُنّيت في عهد بعيد، لكيما تتيسّر للكثير من الناس الذين لم تكن في بيوتهم آبار·

الصفحات