كتاب "البئر الأولى، فصول من السيرة الذاتية"، يقول المؤلف جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة كتابه: أنا لا أكتب هنا تاريخاً لتلك الفترة· ثمة من هم أعلم، وأجدر، وأبرع مني في سلسلة ووصف أحداث العشرينات وأوائل الثلاثينات في فلسطين· ولا أنا أكتب هنا تاريخاً لأسرتي، لأن
أنت هنا
قراءة كتاب البئر الأولى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 6
صبّتها أمي في وعاء معدني مسطح، وضعته على الأرض في الركن، وقالت: لنتركه ساعتين ليبرد· سأعطيك منه قليلاً، عند الظهر، ولكننا سنحتفظ به للعشاء، عندما يعود أبوك من الشغل، فهو مثلك يحب الهيطلية·
أوصتني أمي بألا أكثر من الخروج والدخول، وبأن أكون عاقلاً، ريثما تذهب مع جدتي إلى السوق لشراء الخضرة· وقالت: إذا خرجت، أغلق الباب وراءك جيداً· ولا تسمح لأحد بالدخول
ما كدت أبقى وحدي، حتى تطلّعت إلى الأكلة البيضاء الشهية بحرقة، ومددت اصبعي إليها، وذقتها· ما ألذّّها ! ولكنها ما زالت حارّة، وأمي تريدها باردة· طيّب· فلأخرج الى الحارة· وأخذت لطعة أخرى قبل الخروج·
في الشارع، عند باب الدكان المقابل، لقيت أحد أصدقائي، فقلت له : أتعرف؟ أمي طبخت لنا اليوم هيطلية
وعندما تمشّينا وراء الجامع، التقانا صبيّان آخران، وقال لهما صديقي : أمه طبخت اليوم هيطلية· وبعد قليل، كان المزيد من أطفال الحي قد تجمعوا عند المنعطف، يلعبون· فقلت لهم: أمي طبخت هيطلية!
قال أحدهم : كذاب!
قلت: أنت كذاب· تعال وشوف
ثم التفت إلى الآخرين، وقلت : يلاّ تعالوا إلى بيتنا في الخان· عندنا هيطليّة
قالوا : ولكن نخاف من أمك
قلت : أمي ذهبت مع جدتي إلى السوق،
جعلنا نتقافز ونتراكض باتجاه الخان· كان الباب الخارجي، كالعادة مفتوحاً· أدخلت أصدقائي، ودفعنا معاً الباب الحديدي الكبير لمسكننا· ودخلنا جميعاً - وكنّا سبعة أو ثمانية·
رغماً عن العتمة، كانت قصعة الأرز بالحليب المستقرة على الأرض تتوهج كالشمس· سحبتها إلى بقعة قرب الباب، للمزيد من الضوء، وقلت للأولاد: اقعدوا!
وقعدوا على الأرض جميعاً في حلقة حول الطبق الأبيض· وصحت بهم: انتظروا! لا تأكلوا بأيديكم! عندنا ملاعق!·
وكان قرب البابور صحن فيه مجموعة من الملاعق الخشب والألومنيوم من أحجام مختلفة، وزّعتها عليهم، واحداً واحداً· ووجدت أنه لم تبق لي أنا ملعقة، وراحوا هم يأكلون· فتناولت المغرفة بسرعة، وشققت لي مكاناً بينهم، وغرفت بها، وأكلت مع الآكلين·
وفي تلك اللحظات الرائعة، وقد كدنا نأتي على ما في القصعة، دخلت أمي ووراءها جدتي، وصاحت بنا صيحة اهتزّ لها الخان· ورمى الصبية عنهم ملاعقهم، وأنقذوا بسرعة العفاريت من الباب المفتوح، وأطلقوا سيقانهم للريح· وقبل أن تطبق يدا أمي عليّ، وجدتني أنا أيضاً أسابق الريح، وقد تشتّت أصدقائي في كل اتجاه· وبقيت أركض حتى وصلت باب كنيسة المهد مبهور النّفس، وحيداً لا رفيق لي·
وأدركت حينئذ أن أبي لم يبق له شيء يأكله في المساء عند عودته متعباً من العمل، وأنا السبب· وخفت أن أرجع إلى البيت·
لم أجد أحداً من رفقتي ألعب معه· على بعد قليل في باب المهد، على طرف من الساحة، كان رجل يسحب الماء من دلو جلدي من بئر كبيرة الفم، ويصبّه في جرن حجري مستطيل قربها، وثلاثة جمال قد أحنت رؤوسها فيه حتى كادت مشافرها الضخمة تصيب قعره، وقد تكشّفت عن أسنان صفراء رهيبة، وهي تشفط الماء بشراهة· وقفت أتفرّج عليها، على استدارة أعناقها الطويلة، وضخامة أبدانها، وارتفاع سيقانها الهائل، وأخفافها المفلطحة، التفّ حولها وأخشى الدنو منها كثيراً· وما يكاد صاحبها يفرغ ماء الدلو في الجرن، حتى تأتي عليه الجمال في الحال·