أنت هنا

قراءة كتاب البئر الأولى

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البئر الأولى

البئر الأولى

كتاب "البئر الأولى، فصول من السيرة الذاتية"، يقول المؤلف جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة كتابه: أنا لا أكتب هنا تاريخاً لتلك الفترة· ثمة من هم أعلم، وأجدر، وأبرع مني في سلسلة ووصف أحداث العشرينات وأوائل الثلاثينات في فلسطين· ولا أنا أكتب هنا تاريخاً لأسرتي، لأن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5
- 1 -
 
انتبهت إلى أن أهلي يسمّون المكان الذي نسكنه بالخان· ثم انتبهت إلى أن من يأتي عندنا يصفنا بساكني الخان· وهو لا ريب قد كان خاناً في يوم مضى: غرفة فسيحة، عميقة، في الطابق الأرضي من مبنى عتيق على الشارع العام، خلف الجامع· وعلى مقربة منه دكاكين كثيرة من كل نوع، من البقّال إلى صانع الأحزمة وبرادع الحمير· وليس للغرفة نافذة· ليس لها إلا باب حديد كبير، كأبواب المخازن، أكاد أعجز عن زحزحته لثقله، وقرب الباب مرحاض صغير، أضيف حتماً بعد الفراغ من بناء الدار في يوم من أيام العهد العثماني الطويل·
 
وبين بابنا الكبير والشارع بوابة خشبية أصغر منه، جعلت مدخلاً للبناية، وهي أيضاً إضافة لاحقة، لعزل المبنى قليلاً عن الشارع، فحالما نتخطى عتبتها العالية، يواجهنا باب الخان على مسافة ست خطوات أو سبع· وإلى اليسار، في الفضاء، درج حجري مكشوف يصعد إلى الطابق الأعلى الذي كانت فيه غرفة طُلي بابها بالأخضر، كلما صعدت إلى فوق، حيث يقيم رجل ذو لحية قصيرة يلبس السواد دائماً، ولا أراه إلا وهو جالس إلى طاولته، يفكّك ويركّب آلات صغيرة بين يديه - ويقولون إنه الراهب يوسف· وهو خبير في تصليح الساعات والأجهزة الآلية· ومن جانب غرفته يصعد الدرج المكشوف إلى طابق ثالث كانت فيه العليّة
 
كانت العليّة غرفة مستطيلة كبيرة، يؤمها صباح الأحد الكثير من الرجال والنساء، وبعض الصبية الذين يرتدون قمصاناً بيضاء طويلة، ويرتلون، وفي وسطهم شيخ أبيض اللحية، طويلها، في جلباب أزرق مزركش، يرتفع صوته نشازاً بين حين وآخر بالترتيل، والشموع تشتعل في كل مكان·
 
أفهمني أبي أن تلك الغرفة هي كنيسة، وأنها بيت الله، وأن الشيخ هو القسّ أبونا حنا، الذي يجب أن نقبّل يده كلما التقيناه· وكانت رائحة البخور تعبق في هذا الطابق الأعلى طوال أيام الأسبوع، وتتكرّم كلما هبّت ريح ملائمة، فتنزل إلينا، نحن ساكني الخان، بشذاها الطيّب، فتعطّر الجو·
 
كان الخان عميقاً، رطباً، مظلماً، إلاّ إذا اقتحمه شعاع من الشمس في الصباح، والباب مفتوح· وفي ركن منه، كانت أمي تطبخ على البابور البريموس، الذي كان يطلق صوتاً يتفاوت حدة بتفاوت حجم لهيبه، فأشعر أنه يغنّي· وأمي (التي كانت تغنّي معه أحياناً) بارعة في معالجته بإبرة خاصة، كلما أبدى تمنّعاً في الاشتعال كما هي تريد·
 
يخرج أبي إلى الشغل وأنا نائم· وعندما نستيقظ أنا وأخي يوسف، ثم نشرب الشاي الذي تهيؤه عادةً جدتي، مع شيء من الخبز والزيتون، نخرج إلى الشارع، وأرضها مبلّطة بالحجارة التي يلسع بردها أقدامنا الحافية· ثم يتوافد صبية مثلنا، فننحدر معاً من وراء الجامع باتجاه ساحة باب الدير، حيث عربات الخيول، وقد تكون هناك سيارتان أو ثلاث· ويتقاطر الناس على مهل، فيركبون العربات والسيارات، أو يجلسون في المطاعم والمقاهي المحيطة بالساحة، وقد غمرت الشمس المكان بضياء ليس في الخان ما يماثله - وغمرت كذلك حبلات الوادي، والجبال البعيدة التي تشرف عليها الساحة، فأخذت تتألق، ويزول البرد الذي كان أول ما ما نحس به عند الخروج·
 
وفي صباح أحد الأيام، بعد أن ذهب أخي الى المدرسة، بقيت مع أمي وجدتي أرقب طبخة وعدتني أمي بها: هيطليّة - أرز بالحليب· كانت بائعة الحليب قد طرقت بابنا، فاشترت أمي منها بالكيلة عدة أوقيّات صبّتها البائعة في الطنجرة· وكان هذا حدثاً مهماً، لأن أمي تقول أن لا قدرة لها على شراء الحليب إلاّ في المناسبات وعند الضرورات· وبين صعودي إلى الطابق العلوي لأقول للراهب يوسف صباح الخير، ثم إلى طابق الكنيسة الأعلى لأنظر من السطح المكشوف الذي أمامها إلى الصبية الذي هم في الأسفل يلعبون في الحارة، وأناديهم وينادونني، وبين نزولي لأرى كيف يجري طبخ الهيطلية، كانت الأكلة اللذيذة، الموعودة، قد حضرت·

الصفحات