كتاب "البئر الأولى، فصول من السيرة الذاتية"، يقول المؤلف جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة كتابه: أنا لا أكتب هنا تاريخاً لتلك الفترة· ثمة من هم أعلم، وأجدر، وأبرع مني في سلسلة ووصف أحداث العشرينات وأوائل الثلاثينات في فلسطين· ولا أنا أكتب هنا تاريخاً لأسرتي، لأن
أنت هنا
قراءة كتاب البئر الأولى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 7
تركتها، متلكئاً في السير، إلى الطريق المجاور، وتوقفت عند بوابات مخازن السوفنير أتفرّج على ما في واجهاتها من مسابح وصور وصلبان من الصّدف، وجمال صغيرة من خشب الزيتون، وقد صُفّت في قوافل، مقطور بعضها ببعض·
بعد مدة زايلني الخوف، أو نسيته، وجعلت أشعر بجوع شديد· فسرت باتجاه الدار، ولكن، عند الباب، عاودني الخوف مما ستفعله بي أمي، فأطللت نصف إطلالة، وصحت : يمة! ستّي!
فخرج إليّ أخي، وكان قد عاد من المدرسة، وهو يضحك ويقول: تعال، ادخل! تطعم غيرك بالملعقة، وأنت تأكل بالمغرفة! عال والله! كيّفنا! يلاّ، تعال· وجرّني إلى الداخل، لأقابل أمي، وعيناها تقدحان بالغضب·
وفجأة رأيت الغضب في عينيها يذوب إلى ما يشبه الضحك، حين قالت: يا شيطان! أتوزع أكلنا على الناس؟ أتحسب نفسك ابن سليمان جاسر؟ اشبع أولاً، وبعدين أطعم الناس···
ثم التفتت إلي أخي، وقالت : خذ الطنجرة يا يوسف، وخذ هذين القرشين، وأركض الى بيت بائعة الحليب· وإذا وجدت أنه بقي عندها شيء من الحليب، اشتر ستّ أواق، وعد على عجل، لأطبخ وجبة أخرى من الهيطلية لأبيك··· أما أخوك هذا، فلن يذوقها، والله! وخذه معك· لا أريد أن أرى وجهه!
في المساء، تنازلت أمي عن تهديدها، وقالت في نفرة مفتعلة : يلاّ، اقعد مع أبيك وأخيك· أتريد المغرفة لتأكل بها،أم أن الملعقة تكفيك؟
صبيحة اليوم التالي أصعدني أبي مع أخي إلى الكنيسة مبكّراً، وأوقفني في أحد صفّي الصبية المرتلين، ومع أنني لم أكن أعرف ما الذي يرتلون بالسريانية، فقد جعلت أتمتع بما أسمع، وأحاول أن أرفع صوتي معهم، كلما رفعوا أصواتهم· كنت أرقب الولد حامل المبخرة وهو يدنو بها من أبونا حنّا، فيأخذ أبونا بملعقة صغيرة قليلاً من البخور من طاسة نحاسية في يد الولد، ويلقمها جمرات المبخرة، ويرسم عليها إشارة الصليب· ثم يدور الولد بين أرجاء الهيكل، والمصلّين، ويهزّ المبخرة عليهم بإيقاع منتظم، وهي تطلق سحب العطر·
وتمنيت لو أنني أحمل أنا أيضاً مبخرة مثله، لأبخّر الناس، والدار، والدرج، وكل ما في الحارة من بشر ومساكن· فقد قال أبي إن مع سحب البخور تنطلق الملائكة، وتستمطر بركات الله على كل من يتلقى الرائحة الزكية··· وكم تمنيت لو رأيت أولئك الملائكة·
وبقيت رؤية الملائكة حسرة في نفسي، جعلتني أتوهم أحياناً أنني أراها كالأشباح - مخلوقات وسطاً بين الطيور والنساء - وأنني ألعب معها، وأدعوها إلى قصعة من الأرز بالحليب· ولسوف نستطيع أن نأكل على هوانا، لأن أمي لن ترى الملائكة، ولعلها لن تراني أنا أيضاً وأنا بصحبتها·
وكنت أسمع أحاديث عن الشياطين أيضاً: وهي سوداء، لها قرون حادّة، وتنفث من أفواهها النيران، وتطرقع بأذيالها الطويلة، غير أنها لا تحب رائحة البخور، ولا التراتيل الجميلة· ولا أظن أنها تحب مصادقة الأطفال، أو أكل الأرز بالحليب، والحمد لله! لن أريد رؤيتها! وإذا ظهر لي واحد منها، أغلقت بابنا الحديدي في وجهه· وليدقَّ عليه بذيله إلى أن يشبع!
كان أخي يذهب إلى مدرسة الألمان في المدبسة· فقالت له أمي: خذ أخاك معك، حتى أعرف كيف أنصرف إلى شغلي·
غير أن مدير المدرسة، عندما أخذني أخي إليها معه، نظر إليّ نظرة سريعة، وهزّ رأسه، وسأل يوسف: أخوك هذا، كم عمره؟·
أجاب : خمس سنوات
قال المدير: أرجعه إلى البيت· وليأتِ إلينا بعد سنة
غضبت أمي عندما أعادني أخي الى البيت، وفي الحال أسرعت بي إلى مدرسة الروم الأورثوذكس،وهي أقرب مسافةً من مدرسة الألمان، وقابلت المعلّم· فقال لها : أهلاً وسهلاً· خليّه عندنا وروحي مع السلامة· أو أحضريه غداً صباحاً، قبل الساعة الثامنة
ولكننا في اليوم التالي انشغلنا جميعاً بالانتقال إلى بيت آخر، في مكان نصعد إليه بدرج كثير· وانتبهت إلى أن بيتنا الجديد هذا نسميه بكلمة جديدة عليّ : الخشاشي·