أنت هنا

قراءة كتاب البئر الأولى

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البئر الأولى

البئر الأولى

كتاب "البئر الأولى، فصول من السيرة الذاتية"، يقول المؤلف جبرا إبراهيم جبرا في مقدمة كتابه: أنا لا أكتب هنا تاريخاً لتلك الفترة· ثمة من هم أعلم، وأجدر، وأبرع مني في سلسلة ووصف أحداث العشرينات وأوائل الثلاثينات في فلسطين· ولا أنا أكتب هنا تاريخاً لأسرتي، لأن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 4
كان السقّاء يحمل الماء من هذه العين في قربة سوداء كبيرة على ظهره· ولكن مع توفّر صفائح البنزين في سنوات الحرب العالمية الأولى - إذ جاء بها أولاً الجيش العثماني لاستعمالاته الخاصة، ثم جاءت بها شركات النفط بعد ذلك - جعل يأتي بالماء في صفائح أربع محمّلة على حماره، وقد تدثّر هو بمريول جلدي أسود يتقي به البلل المستمرّ· وكثيراً ما اضطررنا إلى الذهاب إلى العين بأنفسنا، لملء جرارنا وتنكاتنا بين جموعٍ شديدة الضجيج والصياح من النساء والأطفال، ثم نحملها إلى الدار، مهما بعُدت، فرحين بها·
 
البئر! كم كانت مهمة، وأساسية· وأيام اضطرارنا إلى الإقامة في دار لا تتمتع بوجود بئر في حوشها، كانت أياماً قاسية حقاً·
 
والبئر في الحياة إنما هي تلك البئر الأوّلية التي لم يكن العيش بدونها ممكناً· فيها تتجمّع التجارب، كما تتجمّع المياه، لتكون الملاذ أيام العطش· وحياتنا ما هي إلا سلسلة من الآبار· نحفر واحدة جديدة في كل مرحلة، نسرّب إليها المياه المتجمّعة من غيث السماء وهمي التجارب، لنعود إليها كلما استبدّ بنا الظمأ، وضرب الجفاف أرضنا·
 
والبئر الأولى هي بئر الطفولة· إنها تلك البئر التي تجمّعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات، أولى الأفراح والأحزان، والأشواق والمخاوف، التي جعلت تنهمر على الطفل، فأخذ إدراكه يتزايد، ووعيه يتصاعد، لما يمر به كل يوم، يعانيه أو يتلذذ به· وكلما استقى من تلك البئر، ازداد مع ريّه فهمه لهذه التجارب والرؤى والأصوات، بأفراحها وأحزانها، وإذ يمتح من مائها، لن يعرف ما الذي سيصعد إليه من صفوٍ قرير، أو طين وعكر· وقد يكثر الطين والعكر، ويقلّ الصفو القرير· ولم لا؟ إنه بذلك يعيش ويتغذّى: إنها البئر التي لن يكون له عنها غنى· وإذ يعود إليها كل مرة، فهو إنما يرد ينبوعاً دائم الفيض في طوايا إنسانيته·

الصفحات