في هذا الكتاب يقول الكاتب العراقي عبد الستار ناصر، يتمم كتابي السابق (سوق السراي) أجمع فيه شلّة رائعة من الشعراء والروائيين وكتّاب المذكرات.
أنت هنا
قراءة كتاب باب القشلة - كتابات في الرواية والشعر والمكان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
باب القشلة - كتابات في الرواية والشعر والمكان
الصفحة رقم: 5
يا لهذه الكوميديا السوداء(1)!
هذه رواية مكانها العراق، وكل ما حدث فيها صحيح، برغم أن كل ما جرى عبر سطورها لا يمكن أن تصدقه النفس وما من شيء فيها ينتسب إلى الخيال، مع أنها الخيال نفسه منذ بدايتها حتى آخر سطر فيها·· انها كوميديا سوداء في زمن كل ما فيه أسود حتى البياض المشكوك بأمره، وفاضل العزاوي الذي نعرفه منذ طفولتنا، لم يزل ذاك الطفل الفيلسوف الذي يلعب بالمتفجرات والذي ندخل معه إلى أوقيانوس الغرائب ونشكو أمرنا اليه في الوقت الذي يزاحمنا هو نفسه على الشكوى التي نشتكي فيها (معاً) من الحياة اللاّمعقولة التي تمر بنا ونحن على مشارف أغرب وأعجب ما يجري في الكرة الأرضية من عجائب وغرائب·
كل سطر في رواية (الأسلاف) يحتاج إلى تكرار قراءته مرتين، حتى تصدق أنك عشت المهازل والكوارث والعذابات والمنفى داخل أسوار العراق الذي حلّت به الشياطين من كل صنف ونوع·· انها محنة أن تصدق الموت الذي أنت فيه مع أنك ما زلت على قيد الحياة·
هذه الرواية - كما يقول المؤلف - تدور في زمن متخيل أو مفترض خارج التأريخ وداخله في الوقت نفسه، على رقعة اسمها العراق وليس ثمة إسقاطات أو ايحاءات ضمن رؤيتها (الميتا- واقعية) بينما يعرف هو نفسه قبل غيره أن كل ما جرى عبر جيوش كلماتها وفيالق سطورها انما هو الحقيقة كما يعرفها (فاضل العزاوي) قبل سواه من قراء روايته·
ومع أن (الأسلاف) لا تختلف في جوهرها عن روايته السابقة (آخر الملائكة) من حيث المعنى، لكنها تعمل على ترسيخ الحنين الذي يحفر عميقاً في روح بطلها (عادل سليم الأمير) الذي هو نفسه فاضل العزاوي وأيضاً (ليس من أحد سواه) فما زالت (كركوك) هي عاصمة أحداثها وكذلك الشعراء والدراويش والشوارع ودور السينما والمقاهي والذكريات·
انها رواية عن الوجع العراقي (المعاصر) بعد غزو الكويت، عن الجوع والتشرد والمهانة التي أصابت الجسد العراقي في صميم كرامته وانسانيته، وبرغم كل ما يقوله أو يبرره المؤلف حتى يبتعد عن أية تفسيرات أو محاكمات أو افتراضات مسبقة، يبقى جوهر هذا العمل الخطير هو في المكان المخصص لبطولاتها وشخوصها وتأريخها الغارق في الدم والمطموس في الغباوات السياسية التي دفع الشعب أثمانها ولم يزل حتى يومنا هذا يدفع فاتورة أخطاء جسيمة وجرائم لا ذنب له فيها·
فاضل العزاوي الذي كتب رواية (القلعة الخامسة) ذات عام في بغداد، لم يزل يحارب - بطريقته الخاصة - كافة أنواع الظلم والعسف الأخطبوطي الماحق الذي يلاحق البراءة والجمال في بلاد النهرين، وهو مبدع حقيقي في ردم الفواصل ما بين الديكتاتورية والدم، وما بين الساسة والحماقة على امتداد التأريخ السرّي لهذا الوطن المسروق والمستباح في وضح النار· لكن ما يؤخذ على رواية الأسلاف هو أن كاتبها أرادها أن تكون (أطول) وأن تصبح صفحاتها أكثر مما (يجب)·· لذلك جاءت عملية (الحشو) على عكس ما تشتهي السفن، حيث أن رياح زوائدها أخذت من الرواية ومن جرفها ولم تضف اليها أيّ شيء سوى بعض الطرائف التي (يرتاح) إليها المؤلف في عموم كتاباته، ناهيك عن الشكل الذي تصدّع هنا وهناك بسبب رغبة فاضل العزاوي برؤية الرواية أكثر سمكاً!
من مثالب تلك الزيادات، ما راح اليه الكاتب من أشياء لا يمكن أن نزاوج أو نوازي أزمانها حتى إذا تعمّد المؤلف ذلك، فالغرائبية لا تعني أن نربط زمان المغول - مثلاً - بزمان الهنود الحمر، والذي يشتري ويدخن سجائر (تركي) في وقت ما من زمن العراق لا يمكنه أن يسمع في الوقت نفسه أغنية (عبوسي) الشهيرة التي يقول فيها (جوزي اتجوز عليّ) صفحة 56 وأشياء كثيرة أخرى من هذا النوع!
وهكذا تتناسل لديه أخطاء الفولكلور العراقي وتراث أجدادنا وتأريخه بحجة (المنطق الخاص) الذي كتب به رواية (الأسلاف) حتى أن غابرييل غارسيا ماركيز - وهو أول من شيّد صرح الواقعية السحرية - لم يفعل ما فعله (فاضل العزاوي) في كسر الزمان إلى حفنة أزمنة والمكان إلى شظايا لا يمكن قراءة جغرافيته مطلقاً !
ليس من شك في أن الأسلاف واحدة من أهم الروايات التي كتبت عن العراق تحت نير الظلم وهتك النفوس والأعراض واستخفاف الحاكم بالرعية، وهذا النوع من الكتابات يحتاج إلى تجربة تغوص في الأرض عميقاً ولا تأتي إلاّ في سن متأخرة من حياة كاتبها حتى يتمكن من تلبية احتياجاتها·