أنت هنا

قراءة كتاب باب القشلة - كتابات في الرواية والشعر والمكان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
باب القشلة - كتابات في الرواية والشعر والمكان

باب القشلة - كتابات في الرواية والشعر والمكان

في هذا الكتاب يقول الكاتب العراقي عبد الستار ناصر، يتمم كتابي السابق (سوق السراي) أجمع فيه شلّة رائعة من الشعراء والروائيين وكتّاب المذكرات.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9
سيرة حياة هرمان هسه(3)
 
سأقصّ رؤياي على اخوتي، وأعلم بأنهم سيكيدون لي كيداً عظيماً، لأنني سواء أأخبرتهم أو لم أخبرهم بما رأيت فالمكيدة منهم ستأتي آجلاً أم عاجلاً ··
 
ذلك على ما يبدو، لسان حال (هرمان هسه) في كتابه اللاّذع الغرائبي الممتع (سيرة ذاتية) الذي احتوى على أجمل مذكراته وأكثرها غنى، ولعل ما جاء به هرمان هسه يتجاوز من حيث القوة والسحر ما كتبه أقرانه من المبدعين الكبار·
 
غطّت هذه المذكرات فترات حياته كلها، من طفولة الساحر - بحسب تعبير هرمان هسه عن أيام الصبا والوقاحة - إلى أزمنة النضج المبكر، إلى سكينة الشيخوخة، عبر اثني عشر فصلاً من أعذب ما وصل العربية من ترجمات عسيرة المنال·
 
هرب هرمان هسه من المدرسة، وتمرّد ضد كل أنواع المهن، بما في ذلك الأكاديمية منها والحرة وكل ما يربطه بالروتين، ومنذ سن الثالثة عشرة قرر أن يصبح كاتباً، وكان تأثير جدّه من أمه أكبر أثر في عموم حياته، فقد انغمس منذ الصبا مع ثقافة ألمانية كلاسيكية وكان الاستشراق أبرز اهتماماته، حتى أنه سافر إلى الهند الشرقية، وبرغم ما أصابه من خيبة أمل هناك، لكنه تمكن من تأليف روايته القصيرة سد هارتا التي جاءت نتيجة لتجربته الخاصة في الهند، وقد نقل فيها حالة اضطرابه النفسي، ثم انه اكتشف في تلك الفترة قدرته على الرسم، وصارت تلك واحدة من المهن التي حققت له دخلاً شهرياً محترماً على مدى سنوات من عمره، ولا بد من التذكير أن (أميل سنكلير) الذي كان اسماً معروفاً أيام الحرب العالمية، هو نفسه (هرمان هسه) وكانت رواية (دميان) قد ظهرت تحت هذا الاسم المستعار في طبعتها الأولى·
 
لعل أكثر ما كان يُشغل (هرمان هسه) في سنوات الطفولة هو أن (يختفي) عن أنظار الناس، طاقية إخفاء مثلاً، أو حالة من السحر تجعله في منأى عن الآخرين، كان يريد أن يحرّر التعساء ويُهلك الطغاة واللصوص ويعفو عن الهاربين من الجيش، ثم أن يساعده اختفاء جسده على امتلاك قلوب بنات الملوك الحسناوات، وربما تمكن أيضاً من الرحيل إلى عصور بعيدة من الحياة الغامضة الأبدية·
 
هذه الرغبة كانت قد استولت على مشاعر وأحاسيس هرمان هسه، ويقول الناقد المفكر ثيودور سيولكوفسكي في مقدمة الكتاب : إن رغبة الكاتب في غيابه الجسدي هو المضمون الحقيقي لقصة حياة هرمان هسه، وهي التي دفعته إلى تأليف (لعبة الكريات الزجاجية) و (ذئب البوادي) حتى يتمكن من إخفاء نفسه عن القراء·· أما كيف أخفى نفسه وراء كتاباته فهو الأمر الذي سكت عنه الناقد واكتفى بقوله: إن هرمان هسه هو الحكيم الذي اكتشف ما وراء الجسد واقترب من روح الأشياء حتى كاد أن يفهم لغة الطيور والأرانب والأشجار!
 
كان (الجد) الذي أحبّه هرمان هسه، يتكلم الكثير من لغات العالم، وكان خبيراً بثقافة الهند، ومنذ نعومة وعيه أراد هرمان هسه أن يصبح شبيهاً ببعض ما كان عليه الجد الذي يصفه بالموسوعة الكنز·· ربما لهذا السبب ذهب هرمان هسه إلى تقليد حياة (الجد) وعاش بداياته بمزاج لا عقلاني أغاظ عائلته ومعلّميه على السواء وبات يُسمّى في البيت بطاغية العائلة بعد أن قاوم سلطة الوالدين عليه وهرب من المدرسة كما هرب من البيت بل هرب عبر أوروبا وآسيا بحركة (مسعورة) حتى أنه رفض جنسيته الألمانية ومضى إلى سويسرا وتمكن فيها من الحصول على حياة جديدة وجواز سفر مختلف، ثم جاءته الجنسية السويسرية على طبق من ذهب قبل حصوله على جائزة (جوته) ومن ثم على جائزة نوبل عام 6 4 9 أي قبل رحيله عن الدنيا بست عشرة سنة·
 
تزوج هرمان هسه ثلاث مرات، لكنه يكرر بعد كل زواج وطلاق لا يمكن للفنان المبدع أن يكون زوجاً ناجحاً أو أباً ناجحاً وفي روايته (روسهالده) يصف الزواج والعائلة بدقة عجائبية حتى يثبت مرة أخرى على أن المبدع ليس بحاجة إلى تأسيس عائلة ما دامت الكتابة قد أخذت منه الكثير من التوتر والعاطفة، ثم يقول: كم هو رائع أن تعود طفلاً مرة أخرى·
 
هرمان هسه ليس خيالياً في أفكاره، إنه هو (الخيال) نفسه مسبوكاً على هيئة رجل جاء الدنيا بمزاج مختلف، كان يريد أن تثمر شجرة التفاح في الشتاء بدلاً من الصيف، وأن تكون محفظة النقود مليئة دائماً بفعل السحر، أراد في أحلامه وربما في يقظته أن يكون بطلاً أو امبراطوراً متوّجاً على قارات العالم وأن يبطش بأعدائه - لكن بشهامة وكرامة - وأن يعثر على جميع الكنوز المفقودة على امتداد التأريخ، ثم - وهذا هو الأهم - أن يكون لا مرئياً من قبل البشر، ولا مانع أن تراه الحيوانات والأعشاب والعصافير!
 
واذا ما عدنا ثانية إلى جدّه من أمه هرمان جوندرت سنرى أنه خصّص له فصلاً متميزاً من سيرته، يعترف على امتداد سطوره بأنه يتماهى مع صورة هذا (الحكيم) الذي أرشده نحو الطريق الصعب، وهذا يعني بالضرورة مسالك الكتابة المبدعة وأسرارها الجميلة، هو الذي احتفظ بواحدة من أخطر قصائد الجد وأهداها إلى (متحف شيلر) في مدينة مارباخ بناء على طلب من ادارة المتحف، وبرغم أن الجد (هرمان جوندرت) مات منذ مائة عام، لكن القصيدة ما زالت من أبرز مقتنيات هذا المتحف الأدبي الشهير والتي يقول في بعض فقراتها:
 
أوراق ذابلة فوق شعر ذابل،

الصفحات