المجموعة القصصية "الصدى" للكاتب محمد زكريا الزعيم، يقول في مقدمتها:
أنت هنا
قراءة كتاب الصدى
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الصدى
قصة تاريخية
أعنة الخيل
مع نفحات أنسام الفجر الرخيّة كان نور الصبح يسري في جمرات الليل الأسود فتتأجّج لهباً تُضرِّج حمرته أديم السماء بظلال قرمزية شفافة ، تبهر الأنظار وتخلب الألباب .
على حين انطلق نداء الله أكبر يصدح من مآذن المسجد الأموي يردِّد في جنبات الكون ذلك النشيد الإلهي الخالد وكأنه حادٍ ملائكي يطرد فلول الليل وقطعان الظلام ويسوقها إلى ما وراء الأفق البعيد ! . .
في ذلك السحر أخذت ميسون تتلمس طريقها بخفةٍ وحذر تطوف على بيوتات دمشق القديمة التي تغفو وقد استسلمت لرقاد لذيذ ناعم آمنة مطمئنة تحت جناحي ذلك النسر الأموي الذي خفض لها جناحي الحب والمرحمة وقد أسرّت في صدرها أمراً ، وآلت على نفسها أن تقوم بما لم يستطعه الرجال ولو كان في ذلك تجرُّع السم الزعاف ،ونزول الموت الزؤام .
وقد حلفت على ذلك بكل محرجة من الأيمان يميناً حتماً جزماً ، لا نكث فيه ، ولا سبيل للتحلل منه .
وبينما كانت الشمس ترقى في الأفق درجة درجة لتستوي على عرش السماء ، اعتلت ميسون منبراً صغيراً ترجو لكلماتها المؤمنة أن تبلغ أقصى أذن في ذلك المحفل الذي ضمّ لفيفاً من الصواحب وثلةً من فتيات الحي . .
" لقد طمى طوفان الموت أيتها الحرائر الصواحب ! وحاق بنا المكروه من كل جانب . وكأني بشياطين التتار قد مزقوا أديم ا لثرى فخرجوا لنا من كل أرض ، واندفعوا نحونا من كل ركن وأقبلوا علينا من كل ناحية ، أما رجالنا فقد آثروا السكينة والدعة . واستطابوا الحياة مع الذل وكرهوا الموت مع الفخار . فأخلدوا إلى ا لراحة والونى ، واستمرؤا الخنوع ، واطمأنوا إلى القعود ! . .
وكأنهم في منأى عن الخطر وليس ثمة حياض يدافعون عنها ، ولا حمىً يخشون انتهاكها ، ولا رسالة يجاهدون في سبيلها .
ولا حيلة لنا إلا أن ننضو عنا خلع الأنوثة ونطمس آيات الحسن وندع الزينة والطيب ونرتدي لبوس الشجاعة وحلل الرجولة ونمضي لنحقق ما تصاغرت دونه همم الرجال .
فها أنا ذا أرفع عن رأسي تاج الحسن لأجدل من شعري حبالاً مضفورة وأعنة مجدولة لخيل الجهاد ومطايا النضال " .
وبأسرع من لمح البصر وتردد النفس أخرجت ميسون من جيبها مقصاً وأتت على أجمل تاج تزهو به كل غادة ، وتفخر به كل حسناء ! وجزَّت ما حباها الله به من شعر يتوج رأسها وضفائر سابغة تزيد حسنها وما هي إلا لحظات حتى أخذت بنات الحي يحذون حذوها ويفعلن فعلها فامتلأ حجرها بالجدائل المقصوصة والغدائر المبثوثة ، والأشعار المنثورة وكأن الليل قد تطاير ريشه بدداً وقطع الظلام قد تناثرت مزقاً .
وقبل أن تهم ميسون بالنهوض أمسكت صديقتها هند بيدها تستمهلها الخروج والكلمات تنبثق ثورة من ثغرها الجميل كما ينتشر النور من مصباح منير :
" ليعلم كل رجل في هذه الديار أننا معاشر الحسان وربات الحجال في أرض الشام كوردة دمشق الجورية لا تتفتح أوراقها إلا لنور الفجر وإطلالة الضياء "
وهنا التفتت ليلى بوجه مشرق فتان ، كأنما استمدت منه شمس الصباح تورّد لونه ونعومة ظلاله تريد أن تعمق مجرى الحديث أو توسِّع من دائرته ! . . بل نحن كعبة حسن لا يطوف بها إلا من توضأ بماء الرجولة ، ولا يدخل حرمها إلا من تجلبب بجلباب الشهامة ، أو اشتمل بشملة الإباء "
فانبرت عفراء تهمس بصوت أعذب من انسكاب المدام ، " بل نحن ناي طروب لا يشدو إلا بنفثات صدر مترع بالحب ، مفعم بالأشجان ، دفّاق بالآهات ، فيجود حينئذ بأرّق الألحان وأعذب الأنغام "
واندفعت ميسون بحماس واندفاع كطائرحبيس انفرج باب قفصه فانطلق ينعم بحريته ثم ولّت وجهها شطر المسجد الأموي حيث ينزوي خطيب المسجد في إحدى رحابه الطاهرة .
وكان بينهما حديث وأي حديث ! فقد آنس الشيخ في نبرات صوتها لهفة قلب نفذ صبره ، وضعف احتماله . تحفُّ به ضلوع أحرّ من الجمر ، وأشدّ تأججاً من اللهب فياله من صوت شجي يصعد في أصدائه زفير النار وأنفاس البركان .
فكان حديثها جذوة أضرمت فؤاد الشيخ وشعلة ألهبت مشاعره وحركت لواعجه ، فغدا أشواكاً تقضُّ مضجعه فإذا به لا يطمئن به مجلس ولا يقر به قرار فقام لفوره واعتلى المنبر وفي رأسه تدوي كلماتها الثائرة ، وفي قلبه يتوهج نورها وجلالها . فتتناغم في مسامعه أصداء حديثها مع رَجْع الآذان يتردد في جنبات المسجد داعياً لصلاة الجمعة .
وأخذ في الكلام فكانت كلماته تتحدر تحدر السيل وتتطاير تطاير الحمم . وكأن الله عز وجل قد فجر ينابيع الحكمة على لسانه ، فبين شفتيه تتزاحم الحروف ، وفي قلبه تصطخب المعاني ، وفي صدره تضطرم الأحاسيس ، فلم يجد بأساً من خرق ما اعتاده من تنقيح العبارة وتخير الألفاظ وتزيين المعاني ،وهندسة الكلام ، وكيف لا يكون كذلك وقد أضرمت الفتاة في صدره ما لا ترقى إليه الخواطر ولا تسمو إلى علاه المشاعر .
فكان الكلام ينبحس من أعماقه عذباً فراتاً ، فيملك أعنة القلوب ،ويردُّ شارد الأهواء ، ويقوّم زيغ النفوس ويستهمي ماء الشؤون ، فسرعان ما شخصت إليه الأبصار فسكنت الجوارح واطمأنت النفوس !
ولا غرابة في ذلك ألم يكن كلامه إلهاماً تدفَّق بالحكمة وصدع بالحق ؟ !
كلام لا يعوره ضعف ولا يشينه تصنّع ولا يفسده تكلف ! تتلقفه الأفئدة ، فتستروح به الصدور ، وتهشّ له المهج ! وما إن انتهى الشيخ من ترديد كلمات الفتاة على مسامع المصلين : " ألا أيها الرجال هاكم جدائلنا اصنعوا منها أمراساً لخيولكم واضفروا منها أعنة لمطيكم ، وإلا فخلوا بيننا وبين المجد الذي عنه قعدتم ، والجهاد الذي عنه تثاقلتم " .
حتى ضجَّ المسجد بهتاف واحد قوي شقّ أجواز الفضاء وبلغ عنان السماء ـ الله أكبر ، الله أكبر . .
ثم خرج المصلون للتو يحثون الخطا نحو قلعة دمشق يحدوهم داعي الجهاد ليعدوا ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل وليمضوا مجاهدين في سبيل الله .
لقد كانت تلك الكلمة الشرارة اللامعة الوهاجة التي أججت لهيب حرب ضروس في " عين جالوت " جعلت التتار أثراً بعد عين .