كتاب "تصور لمستقبل البشرية..
أنت هنا
قراءة كتاب تصور لمستقبل البشرية - إنشاء مجلس مستقبل العالم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

تصور لمستقبل البشرية - إنشاء مجلس مستقبل العالم
القضايا المبدئية
لم يسبق للبشرية أن توفَّرت لديها قوة تأثير على كلٍّ من الأجيال الحالية والمستقبلية كما هو حالها الآن؛ وبالوقت ذاته، فإنها تتحمل مسئوليات غير مسبوقة، أيضًا، تجاه كل هذه الأجيال· إلاَّ أننا، وقد أعمانا عن الحقيقة ما حققناه من نجاحات، قد فقدنا موقعنا في ملحمة الحياة، وبتنا ننقادُ إلى (الخبراء)، الذين يقولون لنا أن المجتمع ليس أكثر من كومة مصالح متعارضة، ويملؤه بشرٌ، هم (آلات ذكية تسير عمياء وفق برامج تدفعها إلى صون جزيئات أنانية، هي الجينات)، حسب رأي ريتشارد دوكينز
وثمة من يزعمون بأننا نعاصر ما يسمى ب (الفراغ القيمي)؛ أو - بمعنى آخر - أن الخلافات بين أنظمة القيم الموزَّعَة على سكان هذا العالم لا تلتقي، بل هي متضادة· وهذه مزاعم بلا سند قوي؛ ومما يؤكد هذا ما توصَّل إليه نفرٌ من الباحثين في (معهد أخلاقيات العالم)، ومؤسسات بحثية أخرى، ومفادُهُ أن ثمة اتفاقًا لافتًا للنظر على قيم بعينها، وعلى أن القيم لها الأولوية، عبر كل قارات العالم، وبين مختلف الانتماءات الروحية والثقافية والدينية، ومع تفاوت الأوضاع الاجتماعية للناس· فهذا الإجماع القاعدي يتجاوز التباين في وجهات النظر بين سكان العالم، ويتسع ليشمل كلاًّ من المؤمنين وغير المؤمنين، من مختلف المرجعيات، وفي كل البلدان·
إن مجتمعًا عالميًا يحتضنُ مثل هذه المبادئ العامة لن يكون من الصعب تخليقه، فهو قائم بالفعل، ولا ينقصنا سوى المؤسسات التي تدعم هذه القيم العامة؛ ولا نرى أي مشكلة في اختلاف طرق التفكير فيما بيننا؛ ولكن المشكلة الأساسية تبرز حين لا نحسن تحديد الأفكار التي ينبغي أن نلتفَّ حولها لنفعِّلَها، عبر المؤسسات المهيمنة في مجتمعاتنا· إذن، فليس ثمة فراغًا قيميًا، ولكن فراغًا على مستوى الفعل·
وبينما يعيش العالم في توقٍ إلى قيادة ملهمة، فإن جانبًا كبيرًا من قادتنا السياسيين صاروا أسرى لأحلامٍ يقظة يرون فيها أوهامًا لما يمكن تسميته بالأصولية الاقتصادية، التي تخصم من حساباتها المستقبل، وتُبخِسُ حقَّ القيم والمؤسسات، التي على أساسٍ منها يمكن أن نبدأ عملية تغيير مجتمعاتنا، التي نحن بأمس الحاجة إليها· إن هؤلاء القادة لم يعودوا يمثلوننا كمواطنين، وإنما - فقط، وفي نطاق ضيق - كمستهلكين؛ وباتوا يركزون جهودهم على توفير الحماية القانونية الدولية للمنافع المتبادلة، وجعلها في مرتبة تعلو مرتبة الحقوق الأساسية للإنسان والمجتمع والبيئة· لا عجب، إذن، أن تجدهم موضع سخرية مواطنيهم، الذين لم يعودوا يكترثون بهم، بل إنهم يواجهون، في بعض الأحيان، بالمعارضة العنيفة من قِبَلِ أفراد فقدوا الانتماء إلى نظام لا يقدم سوى هذه الخيارات الكئيبة· فإذا أردنا تجنُّبَ تزايد حدة هذه المصادمات والضغوط البيئية في العالم، علينا أن نعيد تشكيل الجدل الدائر حول مستقبلنا، ليشتمل على بنودٍ أخلاقية، ويفرض قيم مواطنينا على اقتصادياتنا، بدلاً من العكس·
إن المذاهب الاقتصادية بسياساتها التطبيقية، مثل نموذج رأس المال الإنمائي العالمي، تشتغل، بشكل أساسي، على الأنشطة البشرية الحالية؛ وقد اغتصبت نظرياتها أنظمتنا القيمية وثقافاتنا وموروثاتنا، حتى أن معظم معضلاتنا الإنسانية والاجتماعية والبيئية يُنظرُ إليها الآن بصفتها مشاكل اقتصادية· والسؤال الملح الذي يطرح نفسه : هل يمكننا تحمُّل ذلك، في المدى المنظور؟
لقد اتضح لنا، خلال الأربعين سنة المنقضية، أن السلوك الاستهلاكي المعربد لم ينجح في إضافة مزيد من السعادة لأغنياء العالم، بل إن أعدادًا متزايدة من الناس أصبحوا يعانون القلق بصورة أقسى، وتنتابهم المخاوف، وتحيط بهم المثبِّطات، مع نظام يضحي بالقيم المتجذِّرةِ فينا من أجل غرض وحيد، هو الاستهلاك العالمي، الذي يتعارض، بصورة مباشرة، مع رغبتنا في الحفاظ على كوكبنا صالحًا لمعيشة البشر·
لقد استنزف قادتنا رأسمالنا من القيم الأخلاقية والاجتماعية والطبيعية (باعوا رصيد العائلة من الفضة !)؛ وحولوا ثروتنا إلى سلع تباع وتشترى؛ وينتظرون أن نصفق لهم على أساليبهم في تكوين الثروات، الذي يعدونه إنجازًا غير مسبوق· إنهم يضحون بأطفال الفقراء على مذبح ممارساتهم المحاسبية ونظمهم البنكية· إنهم يعتنقون التبضُّعَ مذهبًا، حتى أنه صار جزءًا من دولبتهم الجينية؛ وهم يستخدمون عمليات تحليلية مضللة، وعقليات آلية، في التعامل مع أنظمة مفعمة بالحياة· وعلى ذلك، فإن هذا النظام الاقتصادي لن يلبث أن يصبح غير محتمل، على المستويات الإنسانية والاجتماعية والبيئية· ويبدو أن الأوان قد فات لإعادة ترتيب الأوضاع، في بقاعٍ كثيرة من العالم· لقد تمت المجازفة باحتياطيات النفط العالمي، لأغراض سياسية وتجارية؛ ومن المنتظر أن يصل منحنى الإنتاج إلي قمته خلال سنوات قليلة قادمة، مما سيؤدي إلى قلقلة شديدة لنظام عالمي قائم على نفط رخيص الثمن· كما أوضحت تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن التغيرات المناخية قد تُفقِرُ الاقتصاد العالمي، في غضون عشرات قليلة من السنين، ما لم نتخذ بصددها إجراءات حاسمة·
إننا بحاجة لأن ننقي الجدل الدائر في الأوساط العالمية من التفاهة والابتذال، وألاَّ نقول إلاَّ الصدق· فكثير مما يتم قبوله الآن، من وجهة النظر السياسية، هو - في حقيقة الأمر - ضَرْبٌ من الإرهاب الدولي، وإرهاب موجه إلى اقتصاديات الأجيال المتعاقبة· لقد ورد في الكتاب الأخير لقداسة الدالاي لاما : يصعبُ عليَّ ألاَّ ينتابني الشكُّ في أن الأثرياء يزدادون ثراءً، وأن تجاهل الفقراء مستمر، مع الديون العالمية، واستغلال الموارد الطبيعية بكلفة منخفضة نسبيًا
إنَّ السماح للانبعاثات مُضطردة الازدياد من غاز ثاني أكسيد الكربون، والتي تؤدي إلى تغير المناخ العالمي، يُعَدُّ جريمةً في حق الإنسانية؛ وكذلك الأمر بالنسبة لإجبار الفقراء على أداء حقوق ديون مريبة للأغنياء، متجاهلين الدين التاريخي والبيئي المستحَق على الشمال؛ فكما تدين تُدان·
لقد كان أسلافنا حريصين على مبدأ يفيد بأنَّ شركات القطاع الخاص التي تعمل لغير الصالح العام لا يحقُّ لها أن تتمتَّعَ بامتيازات؛ وفي القرن الثامن عشر، كانت الحكومة البريطانية توقف أي مشروع يتحامل على الخاضعين للتاج الملكي الإنجليزي، أو يظلمهم، أو يزعجهم؛ وحتى وقت قريب، كان تشريع مماثل لا يزال ساري المفعول في الولايات المتحدة الأمريكية· لقد تقوَّض ذلك الإجماع في الرأي الذي كان يسمح بوقف وإغلاق الشركات·· دمرته الأقلية الغنية وعملاؤها في الأوساط السياسية والعدلية والإعلامية؛ وهم يعملون الآن على عولمة الأسس التي يتبنونها، ليحكموا العالم· إنهم يزعمون أن ما يوحِّدُ بيننا جميعًا إن هو إلاَّ الجشع؛ وهذا قولٌ عارٍ من الصدق؛ فنحن لا نسلك سلوك المستهلكين إلاَّ حين تكون ثمة ضرورة تدفعنا لنتعامل كمستهلكين؛ كما أن التبضُّع لا يصبح التعبير الأساسي للمجتمعات العصرية إلاَّ عندما لا تكون ثمة بدائل مطروحة أو مطلوبة·
إن قيمنا العامة، نحن المواطنون سكان الأرض، تغرق الآن في لجَّة خطاب تجاري منفِّر؛ فالصوت الأعلى في مجتمعاتنا هو صوت الإعلانات، الذي يستهدف الجميع، بدءًا بالأطفال في سن ما قبل المدرسة؛ ولا همّّ لهذه الإعلانات غير أن تروِّج بيننا ثقافة الإحساس الدائم بالنقص وعدم الرضا واللامبالاة· لقد وصف الشباب المشاركون في المنتدى الأول لحال العالم، الذي انعقد بالعام 1995·· وصفوا النتائج المترتبة على تلك الأحوال، فقالوا : إننا الآن بصدد كارثة كونية تواجه الروح في سعيها من أجل إدراك الجوهر؛ فإذا تدهورت ثقتنا بذواتنا واحترامنا لها، فإن قيمًا مثل الصداقة، والأسرة، والمجتمع، والثقة، والاحترام، ستبدأ في الانهيار أمام الأنانية والسعي الدؤوب نحو المكاسب المادية؛ ويبدو أنه قد أصبح من الصعب، في هذه الآونة، أن تحدد بأي شيئ تؤمن
إن أشد ما يواجهنا من مخاطر، هذه الأيام، ليس هو استمرار السياسات المعمول بها حاليًا - فذلك الحال سيصبح مستحيلاً، إن عاجلاً أو آجلاً - وإنما هو انهيار مجتمعاتنا نتيجة لفقدان قادتنا مصداقيتهم، واختفاؤهم ليحلَّ محلهم مبشِّرون بالتعصُّب والظلام، كرد فعل لسيادة آليات السوق·
فما أحوجنا لقيادات أخلاقية، تستطيع أن تسعفنا؛ فمجمل المؤشرات في الاتجاه الخطأ· لقد بذلت جهود كبيرة للتوصل إلى صيغة متفق عليها لفكرة المسئولية المشتركة، يلتزم بها عند التعامل مع أسقام العالم؛ إلاَّ أن الجدل حول هذه المسئولية آخذٌ في التراجع، مما يجعلُ الأغلبية الفقيرة في العالم تفقد إيمانها بالديموقراطية· وحتى الإصلاحات التي كانت قد حظيت بقبول محدود، مثل إعلان أهداف الأمم المتحدة للألفية الجديدة، فإنها لن توضع موضع التنفيذ في الأفق الزمني المأمول·
إنني، فيما سبق، لم آتِ بشيئ من عنديَّاتي، بل هي نتائج توصَّل إليها إثنان من العاملين بهذا الشأن، هما الرئيسان السابقان لكل من البنك الدولي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي· فأمامنا أن نُقِرَّ بفشلنا، ويسجلنا التاريخ كشركاء في جرائم رهيبة؛ أو أن نبدأ العمل، الآن·