أنت هنا

قراءة كتاب تصور لمستقبل البشرية - إنشاء مجلس مستقبل العالم

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
تصور لمستقبل البشرية - إنشاء مجلس مستقبل العالم

تصور لمستقبل البشرية - إنشاء مجلس مستقبل العالم

كتاب "تصور لمستقبل البشرية..

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9

استبدادٌ اقتصادي

ظلَّ المستشار الألماني هيلموت شميدت، على مدى عشرين سنة، يبرر المساعدات الأجنبية الألمانية بأنها وسيلة لخلق مستهلكين مستقبليين للصادرات الألمانية· وثمة بونٌ شاسع بين هذه المقولة وما يذهب إليه الشاعر هجالمار جولبرج من أنه (كلما نقص عدد البشر الجوعى فردًا، فإنني أكسبُ أخًا - أو أختًا - إضافيًَّا)؛ فأيُّ القولين يجد صدىً بداخلنا؟
إن العالم بأسره هو أشبه ما يكون الآن بدولةٍ واحدةٍ من دول العالم الثالث، أغلبية سكانها من الفقراء، بينما مجتمعات الأغنياء المحصَّنَة تتناقص قدرة بوَّاباتها، مع الوقت، على منع الفقراء عنها· والأمر الآن، كالتالي : إمَّا أن يكون بمقدور الفقراء أن يعيشوا في أوطانهم معيشةً لائقة، وإلاَّ فإنهم سينزحون إلى عالم الأغنياء بأعداد متزايدة؛ ولن يكون زجرهم وإبعادهم خيارًا مقبولاً على أرض الواقع؛ فهجرة الأفراد أمر منطقي في مجتمعات السوق العالمية، وبخاصة عندما يثبت فشل السياسات الاقتصادية التي تمكُرُ بالفقراء وتستغلهم·
إن نظرية السوق، التي تؤمن بالفرد، تقول لنا بأن الفشل شانٌ شخصي؛ وعلى ذلك، فبدلاً من البقاء في أوطانهم يصارعون الضيم، قرر كثير من فقراء العالم أن يجربوا في أماكن أخرى؛ وثمة شواهد على أن 85% من الشباب في شمال أفريقيا يتطلع للهجرة إلى دول الاتحاد الأوربي؛ فماذا سيفعل الاتحاد الأوربي إذا تزايدت أعداد المهاجرين إلى عشرة أضعافٍ، أو مائة ضعف؟·· إنه إذا حاول منعهم فإنما يزيد عدد أولئك الذين سيتوجهون إلى أوضح المنافسين العالميين لسياسات السوق : التطرف·· الأصولية الإسلامية·
وتعمد المجتمعات، في كل أنحاء العالم، إلى تعليم أطفالها ما يواجهون به الرسالة الثقافية السائدة للسلوكيات الاستهلاكية؛ ولكن ذلك لا يستمر فعَّالاً؛ ففي تايلاند، على سبيل المثال، لم تعد تعاليم بوذا فيما يتعلَّق بالحياة الفاضلة تدرَّسُ لأطفال ما قبل سن المدرسة الابتدائية؛ وفي الولايات المتحدة الأمريكية تروج، بمعدَّلاتٍ متسارعة، مبيعات مضادات الاكتئاب للأطفال في سن سنتين فما فوق؛ وفي المملكة المتحدة، تقول التقارير إن 50% من الأطفال تحت 16 سنة يعانون ضغوطًا نفسية وتشتت الذهن، نتيجةً للتغيرات التي تمزِّقُ المجتمع الخاضع لسياسات السوق؛ كما أن إصابة الأطفال بأمراض الحساسية تتزايد على نحو لوغاريتمي·
وتنمو، في أيامنا هذه، المعارضة لنظام (رجل الاقتصاد)، بما يتضمنه من فهم منقوص للطبيعة البشرية؛ كما تتزايد مساحة القيم التي ترتكز عليها هذه المعارضة· فلقد قامت معارضة تغذية الحيوانات العشبية، كالأبقار، بجثث الحيوانات الميتة المطحونة، على أسس أخلاقية بحتة، وقبل أن نعرف المخاطر الصحية المترتبة على ذلك (مرض جنون البقر)· وفي حينها، رُفِضت تلك المعارضة بحجَّة أنها (غير علمية)، تمامًا كما يحدث الآن لمعارضة الأغذية المعدَّلَة وراثيًا؛ وكانت النتيجة أن (العِلمَ العظيم) أصبح موضع ريبة متزايدة، بصفته امتدادًا لعالم الأعمال والتجارة؛ وهو بسبيله لأن يفقد مصداقيته· ومن جهة أخرى، فإن العلماء الذين تتعارض اكتشافاتهم مع التطبيق الذي يقدمه أصحاب التفكير الآلي لأنظمة الحياة، يتم تجاهلهم أو يُستبعدون؛ وأذكُرُ - في هذا المجال - ما جرى لجَدِّيَ، البالغ من العمر ثمانين عامًا، وهو من علماء الحياة، وكذلك لعالم الكيمياء الحيوية ميشيل بيهي، مؤلف كتاب (صندوق داروِن الأسود)؛ وهما مجرَّد مثالين في السنوات الحالية·
ويأتي السلوك الاستهلاكي ليكون هو رد الفعل (المنطقي) لهذه القصة المحزنة؛ فإذا كانت المادة هي الحقيقة في منتهاها، فإن تعظيم ما نستحوذ عليه منها يمثِّلُ الأسلوب المنطقي الذي نُغرقُ به يأسَنا الوجودي؛ وتصبح مراكز المشتروات الضخمة رمزًا لعصرنة الجماعات البشرية·
(على الحكومات أن تسهِّلَ الأمور لمنطق السوق)؛ هكذا تكلم توني بلير، متناسيًا أن أحجار الزاوية التي ترتكز عليها السوق (مثل: المسئولية المحدودة، والأعمال المصرفية المجزَّأة، والعولمة المالية، ومنظمة التجارة العالمية)، هي من صُنع الدولة، وتعتمد عليها في وجودها؛ فالأسواق تصنع خدمًا جيدين، وسادةً سيئين·
إننا، ونحن نضرب عرض الحائط بالمعارضة المبنية على أساس من القيم، باسم العلم والاقتصاديات، إنما نعرِّضُ أنفسَنا لخطر أن نتحول في دواخلنا إلى همج وبربر، حسب رأي لويس مومفورد، وذلك لأن مثل هذه المعارضة تمثل القلب من فهمنا لما يجب أن يكون إنسانيًا·

الصفحات