هذا الكتاب "أنصت إلى ذاتك" الذي ترجمته إلى العربية الكاتبة العُمانية أثمار عباس، هو عن معنى الحياة، لا أكثر ولا أقل عن لماذا نتوق لمعرفة معنى حياتنا؟
أنت هنا
قراءة كتاب أنصت إلى ذاتك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المادة، الجسد
"الجسد مادة لا حدود لها"
إن المادة هي أساس وجود الإنسان! لقد رأى سورين كيركيجارد أن أهمية المادة-الجسد- لا تقل أهمية عن الأشياء الأخرى في الحياة بل إنها على نفس القدر من أهمية أشياء العالم الأخرى كالسياسة، العلم، الدين والثقافة وغيرها، إن المادة هي أساس وجودنا لقد بُني الإنسان في الأساس من المادة وكنا نسمي أمهاتنا التربة التي خلقنا منها، لا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل أننا قد تشكلنا في أجسادهن من الخلية والسائل وكل جزيء بُني في جسدنا هو مادة، بدون تلك المادة لا وجود للجسد أصلاً، بدون الجسد ليس هناك دماغ نفكر به ولا مشاعر وأحاسيس نفرح أو نحزن بها، بدون ذلك الجسد بدون تلك المادة الملموسة لا وجود لنا من الأساس! يقول سورين.-أنا أعلم أنك فعلت هذا، يا سورين! أعرف أنك لم تكن من ذلك النوع، الفيلسوف الروحاني الذي يعتقد أن الزهد من شأنه أن يجعل منك موجوداً أو أنك تحرم نفسك وتمتنع عن احتياجات كثيرة كي تجعل من نفسك أكثر مصداقية لتفهم معنى وجودك، لا لست من هؤلاء.
–اسمعوا! أنا لم أتناول وجبات طعام رئيسية منذ ست سنوات ولم أذق طعم النوم لعدة شهور!.
لا! هذا ما لا يعتقد به سورين. عندما كان سورين يقضي صباحاته يفكر في جوهر الإله كان يطمح بسعادة أن يقدم له وجبات طعام لذيذة:
-لماذا لا أفكر بالغداء وأشبع بطني أتمنى أن آكل الآن شريحة لحم من الإوز البري، أو صدر دجاج مشوي مع السبانخ، وقطع خبز وفاصولياء! ويجلس يتخيل ويحلم:
-ماذا لو يقدم لي حمام مُحمر مع سمك السلمون مع جعة كبيرة وكأس نبيذ وفنجان من القهوة وكل هذه الخدمات توصلها لي السيدة أندرسن عند الباب!.
بعد أن يتناول سورين غداءه يتمشى قليلاً، ويتمتع بالنظر إلى الناس والطبيعة والأشياء وربما في طريق عودته إلى البيت يمر على أحد المحلات وقد يشتري ستارة جميلة ليضعها في صالته ثم بعد ذلك يتضح بأنه اشترى شيئاً لم يكن بحاجة إليه.
في عالم سورين، لا تختلف المادة العقلية الفكرية عن الروحية أي أن المادة الملموسة لا تختلف عن الروحي المحسوس إنهما يسيران معاً في تناغم متحد لا انفصال بينهما أبداً فالمادي والروحي يتقاسمان الجزء من الكل وهما جزء في سلسلة من دائرة داخل دائرة لا ينفصلان عن بعضهما وكل دائرة تحتضن الدائرة الأخرى، في داخل الدائرة الأولى هناك المادة وهي ذلك الجزء الواقعي الملموس للإحساس وخارج تلك الدائرة قليلاً هناك الدائرة الأكبر وهي الجوّانية وهي التي تغلق على الدائرة الأولى وتمسك بها وتحضنها هنا نجد عقلية البشر ونوعياتهم وقدراتهم الفكرية والذهنية، وما مدى اختلاف الوعي وقدراته من شخص لآخر، ونجد مدى قوة الفعل وإرادة الفعل لدى البشر ونعرف الأشخاص مسلوبي الإرادة من الأشخاص ذوي العزيمة والإصرار القوي، نرى مقدرة أشخاص على فهم الآخرين وأشخاصاً عاجزين لعدم قدرتهم على تحليل أي شيء، نجد هنا قوة الطاقة لدى الإنسان وقدرته على الفعل، النفاذ، أو التأثير، أو التخيل والقدرة على الإبداع، ذلك الإبداع العميق الصادق الذي لخصه سورين كيركيجارد بكلمة واحدة وأطلق عليها "الجوّانية" وهكذا وخارج حدود الدائرتين، الدائرة المادية والدائرة الجوّانية هناك الدائرة الثالثة وهي الدائرة الكبيرة التي لا حدود لها تلك هي الدائرة الأخيرة التي تجاوزت كل حدود المظاهر الخارجية والجوّانية والتي لا يستطيع أحد منا أن يدرك أو يمكنه أن يستوعب مدى أبعادها الأبدية، الروحانية والتي رأى سورين أنها الدائرة اللانهائية التي ليس لها بداية ولا نهاية وقد فهم أبعادها وأطلق عليها بالدائرة الروحية الأبدية أو الكاملة.
المادي/ الحسي، الجوّاني، الروحاني، ثلاث مراحل في تطور الإنسان، ثلاثة أبعاد من الواقع نفسه، وجهات نظر ذات أبعاد مختلفة من الحياة إلا أنها في النهاية هي نفسها.
- ولكن ما هو الأفضل؟ إلى أين نحن ماضون يا سورين؟ إلى أين ينبغي علينا أن نتوجه؟ أين يجب أن نكون لنحقق ذلك؟
- لا أعرف! يجيب سورين، ويُدير رأسه ليكمل طريقه وهو يسير في إحدى ساعات تنزهه اليومي حول مدينة كوبنهايكن.
- لكن لحظة، من فضلك انتظر قليلاً! ألا تعتقد أن هذه المراحل الثلاث تشكل تسلسلاً هرمياً؟ في بداية الأمر يبدأ الإنسان بالإحساس المادي ثم بعد ذلك يأخذ خطوة إلى الأمام ويصل إلى الجوّانية ثم من المحتمل أن يستمر بالسير إلى أبعد من ذلك ليصل إلى الروحانية، هل هذا كاف؟ أقصد هل هذا أقصى ما يستطيع أن يصل إليه المرء؟ سورين يهز رأسه بنعم.
- هل كتبت إلينا يا سورين؟ هل كتبت إلى إنسان اليوم، نحن في سنة2000 ، ألم تكتب بأننا نحن البشر لا نزال إلى الآن لم نتعد حدود تلك التربية التعسفية؟
- هل تطلب مني أن أجلس وأقرر وأضع نفسي حاكماً على حياتك؟ هل ترغب في أن أكون دكتاتورياً سلطوياً وأكون قاضياً على حياتك؟ هل تريد أن أكون أكثر تسلطاً وأبيعك مختلف تقنيات السعادة وأصبح من هؤلاء الذين يبيعون تقنيات وأساليب السعادة لتصبح أنت سعيد في حياتك؟ ومجرد أن أقول لك أعمل كذا وكذا فقط وأنت تفعل، وهكذا تسير حياتك ويسير كل شيء لديك على ما يرام؟لا! هل تريد أن تجد معنى الحياة؟ إذن ينبغي أن تفعل ذلك بنفسك، ينبغي أن يأتي ذلك بناء على تقييمك الخاص، ينبع من شرطك الخاص الذي تفرضه مشاعرك واحتياجاتك أنت، أن تجد معنى الحياة يأتي ذلك بناء على تقييمك أنت للحياة ينبغي أن ينبع من مشاعرك أنت،من احتياجاتك أنت، أن تجد معنى الحياة هو عليك أن تسأل نفسك:
ما الذي أراه مهماً أو غير مهم لحياتي أنا؟ ما هو الوجود الصحيح الذي يخص علاقتي أنا مع نفسي؟ ما هي هذه المرحلة التي تكون مرتاحاً وراضياً معها، وتشعر بأن هناك إحساس ما بالعدالة داخل نفسك، إحساس بالإنصاف وتشعر بأنك صحيح من الداخل وعلى صواب دائماً.
بطريقة أو بأخرى، سورين يعني ويقول مراراً وتكراراً ويُشير في مؤلفاته إلى أنه لا يريد أن يكون معلماً لأحد وأنه لا يريد أن يكون له تلاميذ أو أن يصبح أي شخص تابعاً من أتباعه، إن هدفه الوحيد هو حمل الناس على التفكير لوحدهم بأنفسهم لإيجاد طريقهم الصحيح الخاص بهم، فيقول كيركيجارد: إن طريقي ليس هو الطريق الوحيد، إنه طريق صحيح بالنسبة لي أنا وهناك طرق خاصة بك أنت وحدك وعليك أن تجدها بنفسك!.
من ناحية أخرى أخذ سورين يُحبك شركاً، مصيدة فلسفية ليوقع بها البشر كي يجعلهم يفكرون لوحدهم بأنفسهم وهكذا وبعيداً عن كل معتقدات ومفاهيم الآخرين الجاهزة حول الحق والباطل وحول الخير والشر، الصح والخطأ، يأخذ سورين الشخص حتى يوصله إلى منطقة يحصل بها على ما يريده هو نفسه، وهكذا يبدأ المرء باتخاذ خطواته الأولى تلقائياً من تلك الواقعية الحسية الملموسة التي كان قد عكس بها رد فعله الداخلي فينتقل من مرحلة كان فيها إلى ما سيصبح عليه، وهناك يكون قد اتخذ خطوة واقترب في تفكيره من معنى الحياة، هذا ما يعتقده سورين. لكن سورين لا يرغب في أن تفعل ذلك بناءاً على أوامر منه أو أن تنفذ ذلك لمجرد إعجابك بما قاله ذلك المفكر القديم، لا، بل إنه يرغب في أن يتطور المرء ويصل لهذا الفهم بمفرده، من نفسه هو، أن يختار ذلك وفقاً لخياره الحر الخاص والنابع من إرادته الحرة وحده. ولكن حتى لو أن سورين ادعى بأن تلك المراحل الثلاث هي طرق موضوعية إلا أنه لا يرى أن هناك مرحلة هي أفضل من الأخرى، لذا ينبغي على المرء أن يكتشفها بالترتيب الصحيح، وينبغي عليه على أية حال أن يُسيطر على ذلك العالم الحسي ذي القيم الحسية كي يمضي قدماً ليصل إلى الجوّانية، ثم بعد ذلك ينبغي عليه أن يُنمي الجوّانية كي تصبح لديه المقدرة ليبحث عن الروحانية.
"بيت الأنا" لها ثلاث طوابق! يكتب سورين كيركيجارد، الطابق السفلي هو "القبو" والطابق الثاني هو المنزل وصالة المعيشة وغيره والطابق الأخير هو السطح، إن هدف أي إنسان قبل السكن في المنزل،هو استعراض ذلك المنزل ثم يختار السكن في ذلك الطابق الواسع المريح الذي سيقدم له الخدمات الجيدة والذي سيحصل فيه على الراحة الكافية ولكن تبقى لديه طوابق أخرى في متناول يده، لكنه لا يشغلها، إلا أنه يتفحصها جميعها جيداً ذلك لأنه على المدى البعيد ربما يستغلها ذات يوم، بالطبع إنه بيته والطوابق التي لا يشغلها هي تابعة له لكنها تقف هناك فارغة لا يستعملها لكنه يفحصها جيداً ويبدأ بتفحص القبو بدقة وعناية فائقة لدرجة أنه لن يمضي حياته وهو يتساءل ماذا يختبئ في ذلك الطابق التحتاني؟
ويعتقد سورين أن كل مرحلة جديدة تمر بها وتتوغل في داخلها وتتعمق في أعماقها أكثر سوف تتقدم وتتركها وراءك، إنسان داخلي، هو حسّي بطريقة داخلية، إنسان روحاني لديه المُتع الحسّية والجوّانية ذات الأبعاد الروحانية، أين ما تكن كن إن ذلك أمر جيد، لكن واصل البحث عن ذاتك ولن تخسر.