هذا الكتاب "أنصت إلى ذاتك" الذي ترجمته إلى العربية الكاتبة العُمانية أثمار عباس، هو عن معنى الحياة، لا أكثر ولا أقل عن لماذا نتوق لمعرفة معنى حياتنا؟
أنت هنا
قراءة كتاب أنصت إلى ذاتك
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
دعونا الآن نستريح من الفلسفة ونعود إلى الأمور الواقعية الملموسة لنعد إلى تلك الطفلة الصغيرة، الآن بدأت تتحرك لقد مرت سنة واحدة على حياتها وقضت مدة مناسبة في اللمس والسمع والتذوق وتناولت أنواع الطعام، قضمت، شَربت لمست تحسست الأشياء، بدأت تداعب العالم من حولها،،عانقت حضنت،شدت الشعر، ألقت نظرها على الأشياء، والآن بدأت تتكلم، لفت نظرها الضوء المعلق في السقف وأول كلمة نطقت بها هي:
- دو!
اي ضوء، ثم بعد ذلك تقول:
- أنـــــاك!
أي هناك-نعم،هناك ضوء معلق.
ثم بعد عدة شهور تبدأ تُشير إلى الضوء وهي الآن أصبحت على دراية منه فتقول:
- إنه لي!
هكذا قالت الطفلة، إنه لي! إنها تعتبر الضوء أحد ممتلكاتها.
إن الكبار لا يُقيمون اعتباراً لعلاقة الأطفال بالأشياء، إنهم يعتبرونها أموراً بسيطة ويقللون من أهميتها، هذا ما قاله المعلم البولندي جانوز كورزاك.
كما أكد كورزاك أن الكبار يسمون ملكيات الأطفال ألعاب أي أن كل الأشياء التي يسهل على الطفل امتلاكها هي للعب معها وذلك مقارنة بالأشياء المهمة في الحياة، أي على العكس من الأشياء الأساسية التي قد تُشكل خطورة على حياة الطفل، كأدوات المطبخ، الكومبيوتر، الأثاث، الكهربائيات وجميع الأشياء الخطرة، لكن بالنسبة للأطفال ليس الأمر هكذا، أن كل شيء حوله بصرف النظر سواء أكان لعبة أم لا، سواء أكان دباً أم سكيناً أو شوكة طعام، طباخاً أم ضوءاً، كل تلك الأشياء والأدوات يستعملها الطفل كي يفهم نفسه فبمساعدة تلك الأشياء تتشكل ويتكون ذاته، أنه يتفحص بيته من الأساس، يبدأ تحققه من داخله، يتعلم الاختلاف ويقارن، بينما يوجد داخل نفسه وذلك الموجود خارجها.
عندما ينظر الطفل إلى الماء في حوض الاستحمام، يجد الطفل نفسه هناك بين قطرات الماء العديدة يأتيه الطفل إحساس قليل بالواقع، ينتابه هاجس آخر غير الحقيقة الكبيرة المتجسدة في مفهوم الأنا، فيشعر بذاته، أن ذلك الذي من حولي هو جزء مني أنا. هذا ما قصده كورزاك.
ولكن هل الأطفال الصغار هم فقط من يتواجدون هناك ويجدون حقيقتهم؟ وهل هذه هي الخطوة الأولى في طريق سورين؟
- أوه، كلا! نحن جميعاً متواجدون هناك،وبعض منا تقريباً متواجد دائماً، وأغلب البشر يجدون أنفسهم للحظات قليلاً وأحياناً لا يجدونها، ربما تجد نفسك في محل للأثاث عندما تضع يدك على قطعة قماش كنبة ما، تشعر بأنها قطعة أثاث غير عادي لا تستطيع أن تمسك نفسك عن لمسها ولا تقدر أن تكف عن تمسيد ذلك القماش ذي الملمس الناعم الجميل، أنت هناك عندما تقوم بتصليح سيارتك،عندما تستمتع في حفظ الأكواب النادرة الجميلة، أنت هناك عندما تشعر بالواقع، عندما تستيقظ ذات صباح مشرق، تخرج من خيمة على الجبل وتشم رائحة الأشجار والزهور، عندما تكون على البحر وتشم رائحة الطحلب وأعشاب البحر ومن بعيد هناك في الخلف ترى بقايا الثلج على قمم الجبال، كان سورين في ذلك الإحساس عندما كان جالساً في حديقة الجادة في شارع فريدريك سبيرغ وهو يشرب القهوة ويدخن السيكار وينظر بحذر إلى الناس، ويراقب هؤلاء البشر الريانين، ممتلئي الأجساد، ينظر إلى هؤلاء ذوي البشرة الجميلة، يتحرى عن هؤلاء الناس المبتهجين، المرحين، وأولئك السعيدين، النشيطين، وهؤلاء الثرثارين الذين يتكلمون لغات عديدة، كان ينظر سورين إلى حليقي الرأس وذوي الأشكال الغريبة لقد وجد سورين نفسه هناك عند مراقبته للبشر وهو ينظر ويراقب النساء العاملات اللاتي يعملن هناك.
إن الكثير من المهن تتطلب حسية وجدية عالية، هناك مهن تحتاج إلى وجود علاقة واضحة لها مع الطبيعة والأشياء، هناك الباحث الذي يبحث ويتفحص في الوثائق والحقائق، المهندس المعماري يحتاج إلى تحقيق دقيق بتفاصيل عمله، البستاني يتطلب عمله الإحساس بالأرض والتربة وما تحتاج إليه وما ينفعها وما يضرها، وكذلك صاحب المتجر وموظف البنك الذي يتطلب عمله أقصى الجدية كي يدير الأوراق المالية هكذا كل الذين يعملون تتطلب علاقتهم بأعمالهم علاقة حسية عالية كي يستطيعوا أن يُديروا عمالهم.
لكن هذه العلاقة الحسية هي ليست للأشياء فقط، بل هي مطلوبة لكل أشكال العلاقات الموجودة خارج إطار نفسك كالعلاقة مع الآخرين، العلاقة مع الحيوانات، الأمكنة، النظريات، كل تلك العلاقات هي جزء من الترابط الحسي الذي يربطك معها، أن تقدم خدمات، أن تعتني بشيء ما، بشخص ما، أن تُحب، أن تتفحص وتضع المسافة التي بيني وبينك، هذا أيضاً شكل من أشكال الحسية، عندما أكبر وأتغير، كيف سأصبح شخصاً آخر؟ في أي سن ينبغي على المرء أن يتوقف ولا يضطر إلى القفز في حضن والديه، أو يكف عن سحب شعر والدته؟ كم المسافة التي أقترب بها من إنسان آخر؟ متى أقترب ومتى أبتعد؟ أين أجد الحدود التي أتحرك بها؟
عندما كنت جالساً على مصطبة في الهند لأستريح للحظات بالقرب من بئر فيشيناي جلست إمرأة مسنة مجهولة كبيرة السن بالقرب مني كانت أسنانها متساقطة، وكانت ترتدي سارياً من القطن لونه أخضر ومن دون أن تسأل ولا حتى محاولة إلقاء نظرة تفحص، أمسكت بيدي وأخذت يدي وبثبات وضعتها عند خدها لحظات ثم وضعتها في حضنها لتستريح وهكذا جلسنا صامتين وأنا وأنا لا أعرف ماذا تنتظر مني أن أفعله الآن أحسست بأن هناك خلط في ذهني وأصبحتُ مشوشاً لا أعرف ماذا أفعل؟
إن أي عمل جديد تقوم به أو أي غرفة تدخلها مليئة بأشخاص مجهولين لا تعرفهم تلقي أولاً نظرة تفحص، تكون أنت مثل ذلك المستكشف البريطاني دافيد ليفينجستونا الذي سار وراء نهر الكونغو متتبعاً طريقه حتى وصل إلى منبعه الأول إلى شلالات فيكتوريا، تبدأ بملاحظة الأشياء الجديدة كالمستكشف تسجل، تكتشف تلك القارات البعيدة غير المكتشفة من قبل أفراد آخرين، تراقب، تختبر نفسك، تجرب ذلك الجزء الجديد الذي لم تجربه من قبل، تتعرف إلى أشخاص جدد، تبحث أو تسعى لمعرفة معلومة جديدة بطريقة طفل عمره خمس سنوات، تكون حسية أيضاً، ما هذا؟ ما اسمه؟ لماذا يفعلون هكذا؟ كيف يعمل ذلك؟ حتى أولئك الذين يعتبرون أنفسهم روحانيون، كانوا في الأساس حسيّون، يقول سورين، أو هذا ما كان يعنيه سورين.
أن يكون المرء مهتماً بالشكل، العادات، التقاليد، الطقوس، القوانين، الملابس وغيرها من المظاهر الخارجية– أكثر مما يكون مهتماً بالداخل، أكثر من أن يتفحص رؤيته الخاصة لتلك الأبدية، إنها طريقة حسيّة للتدين، أن يبحث المرء عن ذاته، أن يدقق في نفسه أن يكون على اتصال مباشر مع العالم، إنه لقاء مباشر مفعم بالفضول والاستمتاع باللحظة الحاضرة، ذلك ما خرج به سورين في البحث عن ذاته، إنه لا يُقيّم ولا يضيف أي قيمة كبيرة إلى مفاهيم ما، ولا ينتقص من قيمة الحسيّة ولا يُدينها ولا ينتقدها ولا يعطي أحكاماً على أي شيء منها، أن تكون قادراً على أن تُدهش أو تفرح، أن تبتهج إلى ما هو خارج نفسك فإن هذه هي واحدة من مكافآت الحياة، في اللحظة التي يلتقي فيها المرء وتجتمع الحسية مع البيئة المحيطة به، يكون هو والعالم فقط، ليس ما قبلاً قبل ولا بعد، ليس هناك سبب لذلك ولا تفكير ولا وساوس أو تأملات مثقلة عن الذات ومطالبها، ماذا حدث وماذا سيحدث، هكذا تعيش كما كتب سورين في تلك الحالة المباشرة والفورية فقط.
"إن أغلب البشر يركضون وراء
المتعة بشكل أعمى لدرجة أنهم يمرون
من قربها ولا يلحقون الإحساس والتمتع بها!.
إما أو"