وجدت في مجلس عرفات عدداً من الذين أعرفهم ومنهم سعيد حمامي، الذي غدا من المقربين جداً إلى الزعيم، وحين دخلت قدمت فتوح ليدخل قلبي ثم تبعته، فهل أدرك عرفات ما توخيته حين لم أجئ بمفردي؟ ليست أدري.
أنت هنا
قراءة كتاب دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟
وإثثر استقالة الشقيري، قبل أن تُستكمل شروط حلول حملة البنادق محلّه، أُوكلت رئاسة المنظمة في صورة مؤقتة إلى عضو اللجنة التنفيذية المحامي الفلسطيني حامل الجنسية الأردنية يحيى حمودة، وكان من أصدقاء مصباح· وقد بثّ تولي يحيى حمودة الرئاسة آمالاً مبالغاً فيها في أن تنتهج م· ت· ف· نهجاً سياسياً متعقلاً مختلفاً عن نهج الشقيري ونهج حملة البنادق كليهما· كان الرجل شيوعياً في وقت من الأوقات وهو لم يعاد الشيوعيين بعد استقلاله عنهم· وقد تطلع الشيوعيون وأصدقاؤهم، ومصباح من هؤلاء، إلى أن تجري الأمور في نحو يجنّب المنظمة الفلسطينية خطر المزايدات اللفظية التي اتسم بها عهد الشقيري ويحميها من خطر الروح المغامرة التي توجه خطى حملة البنادق· وحمل التطلع ذاته كل من تصور أن بالإمكان ترتيب وضع جديد تؤوي خيمة م· ت· ف· فيه الجميع وتسير في الوت ذاته بخطى متزنة·
والحقيقة أن يحيى حمودة ابتدأ عهد رئاسته بالدعوة إلى تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية تحت راية م· ت· ف· وأعطى الرجل إشارات ذات دلالة واضحة على التعقل السياسي· وفي عهد حمودة، تسنى لعدد أكبر من الضباط التقدميين، وفي عدادهم شيوعيون معروفون أو مكتومون، أن يتولوا مراكز بارزة في قيادة جيش التحرير وقوات التحرير الشعبية· وانتعش النشاط لاجتذاب الجمهور إلى الإلتفاف حول المنظمة الأمّ، واتصل السعي إلى تمثيل الفصائل المسلحة في هيئاتها وقيادتها· لكن هذا لم يكن هو بالضبط ما تريده الفصائل، وخصوصاً منها فتح فالفصائل، وخصوصاً فتح، كانت أكثر تشدداً من الشقيري، فلم تسترح لتعقل حمودة، وكانت عازمة إن رضيت باستلام القيادة، على الإستئثار بها وليس مجرد المشاركة فيها· وحين رفعت الفصائل شعار تثوير م· ت· ف· فقد عنى الشعار فرصة هيمنة حملة البنادق وفكرهم المتشدد عليها· وحدث أن نشرت لوموند الباريسية مقابلة مع رئيس المنظمة بالوكالة أظهر الرجل فيها بعض التعقل، فأقامت الفصائل في وجهه الدنيا ولم تقعدها، حتى لقد اضطر إلى تكذيب ما نشر على لسانه· وبهذا، سجلت الفصائل نقطة ضد يحيى حموده وأظهرت قوتها، فيما ظهر للعقلاء من المعولين عليه أنه ليس القائد القادر على تحدّي السائد· وما أن وقعت معركة الكرامة وأحاطها إعلام الفصائل بما أحاطها من دعاية، حتى استخلص مصباح ما استخلصه غيره، وأدرك أن الفصائل تتوخى استثمار النتائج لتحقيق مطامحها الكبيرة· وبدل أن يسلم مصباح بأن لا بدّ مما ليس منه بدّ، استسلم لهاجس خوفه من هيمنة فتح وتجنّد للمجابهة· ومن هنا، جاء حرص زائري على تسفيه الرواية التي تفنن ياسر عرفات في بثّها عن المعركة·
حاولت أن أهديء صديقي المدفوع بسخطه، وتذرعت بالمرض كي أحمله على اختصار الكلام· لكن مصباح تشبث بهاجسه : قرأت مقالك، ولا أرضى لك بأن تكون من الذين يتسترون على التهويش· لا بدّ من أن تعرف الحقيقة، قال هذا، ثم شرع في بسط حقيقته هو أمامي·
قبل أيام من المعركة، رصد الإستطلاع العسكري الأردني تحركات إسرائيلية غير عادية، وأبلغت القيادة العسكرية الأردنية إلى قيادة جيش التحرير ما توفر لها من معلومات· وبدت القيادة الأردنية واثقة من أن الجيش الإسرائيلي يتهيأ للهجوم على المنطقة ودعت إلى اليقظة· ومن جانبه، مرر مصباح المعلومات إلى قادة الفصائل الفدائية التي تملك قواعد في المنطقة ووضع قوات التحرير الشعبية في حالة تأهب· وعندما ابتدأ الهجوم، تابع مصباح الوقائع الجارية في غور الأردن من مقرّ قيادة جيشه في دمشق، ثم وجد من المناسب أن ينتقل إلى منطقة الإشتباك فتوجه إليها· وكانت حدة المعركة قد خفت والقوة المهاجمة قد تراجعت عندما اقتربت سيارة مصباح من المنطقة، فلم يتح له أكثر من أن يعاين نتائجها·
لم ينسب مصباح لنفسه هذا الدور العادي إلا مقدمة للتشنيع على ياسر عرفات· ففي طريقه إلى قرية الكرامة، توقف مصباح عند نقطة تفتيش أقامها الجيش الأردني· ولما كان قائد جيش التحرير مخولاً دخول المنطقة، فقد أُذن له نبالعبور دون ممانعة· وقتها، كما قال مصباح مشدداً على الألفاظ، كان عرفات واقفاً عند هذه النقطة بانتظار أن يؤذن له بعبورها هو الذي لا يحمل صفة رسمية· وقد شرع مصباح في جولته فيما كان عرفات في الإنتظار· وفي لحظة توجهه رلى سيارته للمغادرة، وقعت عين مصباح على عرفات داخل المنطقة وسط حشد من الصحافيين وهو يروي وقائع المعركة مضمناً الرواية أنه هو الذي قادها ومبرزاً دور مقاتلي فتح دون سواهم·
ذكرت لك هذه الوقائع، وأسهبت في إيراد التفاصيل، لأقدم مثلاً على ما أردت استهلال الحديث به· كنّا إزاء صورة مركبة اختلطت فيها بسالة الفدائيين وحماس الجمهور ومنافنسات الفصائل بعضها مع بعض وشاحنات القادة الفلسطينيين وتأثيرات الدول العربية وما أفرزه الخليط مما هو إيجابي أو سلبي· ووجدتني في جو يصعب وصفه بكلمات اللغة المستقيمة·
ومنذ معركة الكرامة، برزت المقاومة الفلسطينية بما هي عامل كاسح التأثير في الساحة الفلسطنية ومحيطها العربي· وتهيأت الفرصة لحملة البنادق فاستحوذوا على قيادة م· ت· ف· ليوجهوها وفق سياستهم المتشددة· وحدث هذا دون أن تكون الفصائل المسلحة موحدة وقبل أن تنضج سبل التفاهم في ما بينها أو تكفّ الدول العربية ذات المصالح والسياسات المتباينة عن التدخل في شؤون الساحة· وتشكلت مع هذا الخليط وسائل النشاط ضد إسرائيل: عمليات مؤلمة لدولة الإحتلال؛ وأخرى إن كانت أقلّ إيلاماً فإنها لم تكن أقلّ صخباً· وإعلام ناشط، يغطي العمليات، ويهوّل، وتتبارى مراكزه المتعددةفي نسبة الأمجاد، الحقيقية، والأخرى المهولة أو المتوهمة، إلى هذا الفصيل أو ذاك، ويُدلُّ كل فصيل بما ينسبه مركزه الإعلامي إليه؛ وجمهور مفتوح الآذان والأرواح لتلقي الروايات وتصديقها أو الإعتقاد بجدوى ترويجها حين يفطن إلى ما فيها من تهويل·
لم يأت أي من الفصائل من فراغ· فقد انبثقت، كلّا، من واقع اللجوء وما يكتنفه من ملابسات: الجبهة الشعبية، ثم الديمقراطية أفرزتهما حركة القوميين العرب فورثتا سمتها القومية المشددة وما مازجها من توق اللاجئين الفلسطينيين إلى الثأر· الصاعفة، ثم الجبهة العربية، انبثقتا من حزب البعث وحملتا سماته: الولع بالشعارات· جبهة التحرير الفلسطينية تمثلت بتوفيق قليل أو كثير توق الفلسطينيين المزمن إلى أن يصيروا شيئاً مذكوراً ومزجت دون توفيق بين الوطنية الفلسطينية والقومية العربية والفكر الإجتماعي المحافظ ولم تتعمق أياً منها· فتح، وهي فصيل الفصائل إن جاز التعبير، أو فصيل من لا فصيل له، انبثقت من مخزون المشاعر التي راكمها اللاجئون منذ نكبتهم· وفي هذا المخزون، تفاعل تأثير المعاناة القاسية والمديدة والتوق إلى الكرامة الشخصية في وجه المهانات والأمل باستعادة فردوس اكتسحته قوى باغية·
تأسست سفتح على أيدي دعاة نشط معظمهم في مطلع شبابه في حركات سياسية دينية: الإخوان المسلمون في غزّة أو مصر، حزب التحرير الإسلامي، وما هو أقلّ شأناً· وعندما تعرضت الحركات الإسلامية إلى الإنتكاس أمام صعود الفكر القومي وبروز الفكر الماركسي، فقد هولاء القناعة بجدوى استمرارهم في حركاتهم الدينية، وشرعوا في تأسيس الفصيل الفلسطيني وحقنوه بهذا المزيج من ا لفكر المحافظ والوطنية الفلسطينية الناشئة في حضن الفكر القومي ذاته· واجتذب المؤسسون عدداً من التقدميين، قوميين وماركسيين، ممن ضاقوا بأحزابهم أو ضاقت أحزابهم بهم، فأضاف هؤلاء إلى المزيج مقتبسات من شتى الأفكار المحليّة والعالمية· ومن هذا كلّه، تشكلت المواقف المتوافقة أو المتداخلة أو المتباينة، ونشأت ثورية فتح التي من نوع خاص: التورية التي لم يفرز حال اللاجئين ما هو أشدّ منها تأثيراً على جموعهم· وقد كانت هذه ثورية متأججة دون شك، إلا أنها إلى مقومات كثيرة لا تتم نجاعة الثورية بدونها ولا تستقيم·

