أنت هنا

قراءة كتاب دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟

دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟

وجدت في مجلس عرفات عدداً من الذين أعرفهم ومنهم سعيد حمامي، الذي غدا من المقربين جداً إلى الزعيم، وحين دخلت قدمت فتوح ليدخل قلبي ثم تبعته، فهل أدرك عرفات ما توخيته حين لم أجئ بمفردي؟ ليست أدري.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

ذكرت لك هذا عن معين وسأذكر غيره لأزيدك معرفة به هو الذي يستحق أن يعرف، ولأظهرك على شخصية إن كان لها فرادتها فإنها تكاد تكون أيضاً، أنموذجاً يُستهدى به لمعرفة الساحة الفلسطينية التي امتزج فيها الأبيض والأسود كما لا يمتزجان في أي ساحة أخرى·
وها أنا ذا أستحضر واحدة من حكايات عديدة بطلها معين بدأت حين كان العمل الفدائي وعداً بارقاً بثّته رعود حرب حزيران/ يونيو 7 6 9 1· ففي ذات صباح، في يوم دمشقي شتاذي عاصف وماطر، اتصلت صهباء البربري بالدكتور نبيه ارشيدات· وصهباء، لمن لا يعرفها، هي واحدة من راذدات الكفاح الوطني الفلسطيني التقدمي، وهي أول معتقلة سياسية من قطاع غزّة تطبق عليها السجون المصرية، وهي زوجة معين، رفيقة عمره وراعية شؤونه المضطربة ومقيلة عثراته الكثيرة وحاميته من المصائب التي تسببها نزواته ذاتها· الحق يا دكتور!، قالت صهباء لنبيه، معين ما جاش الليلة ع الدار واتصل نبيه بي· ولم يكن أي منّا بحاجة إلى التقصّي لنعرف أين قضى معين ليلته· كما لم يكن لأي منّا أن يبلغ إلى زوجة صاحبه أن زوجها قضى الليلة في منزل إمرأة أخرى·
في ذلك العام، أقمنا حفلة احتفاءَ منّا بالذكرى الخمسينية لثورة أوكتوبر الإشتراكية العظمى، وهذا هو الإسم الرسمي للثورة التي سميت أيضاً الثورة البلشفية والثورة الروسية· نظمت الحفلة لجنةٌ كنت أنا عضواً فيها وكان فيها نخبة من الأدباء والرسامين والموسيقيين والممثلين والعلماء والسياسيين ومن في حكمهم· وقد توخينا أن يكون هذا احتفالاً يليق بالذكرى الجليلة ويحررنا من المزاج المأساوي الذي بثته هزيمة حزيران/ يونيو ويوفر فرصة للمتة الراقية· كما توخينا أن يُظهر الإحتفال قوة اليسار وسعة امتداده في الوسط الثقافي وعمق التقدير العربي لدولة ثورة أوكتوبر· وهيأ الشيوعي الدمشقي ذو الإهتمام العميق بالشأن الثقافي، صديقنا الكاتب عبدالله عويشق، منزل أسرته الفسيح ذي الطراز العربي الجميل ليتمّ الإحتفال فيه· وضمّ المنزل ما يزيد على مائة وخمسين محتفلاً ومحتفلة مفتونين بالذكرى· وكانت هذه أمسية من نوع خاص لم أشهد قبلها ما هو أفتن منها· غابت الخطب والتحايا التقليدية، وحلّت الموسيقى، ونشط الرقص، تقليديُّه وحديثه، وتمتعنا بجو رومانسي قلما تيسر لنا مثله في مناسبة أخرى·
معين استهولته فكرة الإحتفال منذ البداية، فهو يحبُّ الإتحاد السوفياتي، وثورة أوكتوبر عنده هي ثورة ثورات البشرية كلّها· وأنعش جوّ الاحتفال روح الشاعر فأطلق لمخزوناته كلها العنان، وتألق حتى لقد كان نجم السهرة على كثرة منازعيه على النجومية فيها· وفي هذا الجوّ، راقص معين سيّدة ألمانية تتكلم الإنجليزية التي يتكلمها هو أيضاً· وقعت السيدة بين يدي الشاعر وهو في ذروة انتشائه، فلم يفطن الذي أدار جمال المرأة رأسه إلى ما ينبغي الرنتباه إليه هو أن مراقصته هي زوجة عالم سوري صديق لنا جميعاً· وما دامت الجميلة من بلد إشتراكي، هو ألمانيا الديمقراطية، فقد أباح معين لنفسه أن يتودد إليها للتو، أليس هو أشهر محبّي البلدان الاشتراكية بين الفلسطينيين· وكما يقع في العادة، في هذا المقام أو غيره، وما دام معين قد شرع في شيء فلماذا لا يمضي إلى النهاية·
وهكذا، عرض الشاعر إعجابه على المرأة التي التقاهما لتوّه، واشتط في التباهي ليظفر بإعجابها ويستأثر باهتمامها· فسمعت الألمانية المفتونة بمراقصة الشاعر الشهير ذي القامة الرشيقة والوجه المسون بشتى التعابير أن مراقصها هو أعظم شعراء العرب، وأفرسهم، وأغناهم، وأن المكتبات المنتشرة من المحيط إلى الخليج لا تكفّ عن مطالبة الناشرين بالمزيد من نسخ دواوينه، وأن الأموال تنصبُّ على حساباته في البنوك العديدة بمختلف العملات، الصعبة منها وغير الصعبة· وفهمت المرأة التي أدرك معين شدّة ميلها إلى المغامرة أن الشاعر الذي وفر لها فرصة العمر بمراقصته دائم الترحال مجبول بالتوق إلى التغيير والتجديد· وسال الإفتتان من عيني الألمانية وهي تصغي إلى حديث المناضل البطل عن سجون أُعتقل فيها وعذابات تعرض لها وعن صموده وثباته على مباءيه· وقال معين للألمانية إنه دأب، منذ تحرره من أسر السجون بعد عجز جزاديه عن ليّ إرادته، على قضاء شتائه في بلد وصيفه في بل آخر· وعدد معين أسماء أكثر البلدان ملاءمة للإنطلاق والمغامرة· بكلمات أقلّ، تعلق معين بالمرأة ووضع نصب عينيه أن يحظى بإعجابها· ومنذ هذه الأمسية تفنن المولج في مغامرة جديدة في تصيّد الأسباب التي تبيح له الإلتقاء بفاتنته، واستفاد من صلته بزوج المرأة فصار يزورهما في منزل الزوجية ويطيل المكوث عندهما·
قد ينبغي أن تعرف أن نزوج هذه المرأة كان رجلاً متين الشخصية، فضلاً عن أنه يغل وظيفة مرموقة في مؤسسة ثقافية محترمة، وظيفة استحقها عن جدارة بحكم موّلاته وكفاءته على الرغم من صغر سنّه· سأسمي هذا الرجل نزيه وأضيف أنه يستحق هذه التسمية· وقد ألف نزيه أن يستقبل معين بترحاب· يجيء المفتون بالزوجة إلى المنزل فيظفر بما يظفر به الزائر المرموق، ثم لا ينصرف إلا حين لا يبقى بدٌ من الإنصراف· وفي الليلة التي غاب معين فيها عن منزله، كان قد مدد مكوثه في منزل الزوجين إلى ما بعد انتصاف الليل· ولما كانت تلك ليلة عاصفة، فقد خشي نزيه على الزائر من مخاطر الرجعة فعرض عليه أن يبيت حيث هو· وما كان أحبّ هذا العرض إلى قلب الشاعر المولّه وما أسرع ما استجابه له!
كانت الألمانية نائمة عندما بلغنا، نبيه وأنا، المنزل· أما معين فكان قد استيقظ لتوّه وجلس مع نزيه الذي أرجأ التوجه إلى عمله· وحلمنا معين نحملاً على أن يصلح حاله، ونبهناه إلى قلق زوجته عليه، وأوصيناه بأن لا يظهر ما يؤذي شعورهما، وكان هو على أي حال حريصاً على هذا· واتفقنا مع معين على أن يتوجه إلى منزله منفرداً ثم نجيء نحن لنصلح ما أفسده غيابه ونعالج أي مشكلة قد تطرأ بسببه· وعندما ولجنا منزل معين، وجدنا المهموم بذنبه جالساً في ركن معتم وقد جلله صمت متهيب وغامض وألجم حركته ولسانه· لم يهتد هو إلى رواية تقنع الزوجة الأريبة فتستر بالصمت والغموض· ولم تلحف صهباء في الأسئلة فسكن الصمت أرجاء المنزل كلّا· والتق نبيه بذهنه الحاضر دوماً لإقالة عثرات أصحابه دلالة المشهد فتطوع بإنقاذ الموقف: هل حكى لك؟ هذر نبيه بهذا السؤال بنبرة توحي بأن وراء نبأً خطيراً· وثار فضول صهباء وتوقها إلى الإطمئنان فانفحت عيناها على آخرهما وجادت منها إيش؟ غزاوية خالصة، ممطوطة ومتوجسة· وأدرك نبيه أنه استحوذ على مفتاح حل المشكلة فلم يتعةل الإجابة، بل أمعن في بثّ الهواجس: لو تأخرت دقيقة واحدة عن الإتصال بي، ولو لم يستخدم فيصل علاقاته مع قادة الفدائيين لوقعت مصيبة عندها، لم يعد لصبر صهباء المديد أن يظل مسعفاً : إرحمني يا دكتور، إيش الحكاية؟ فألقى نبيه جسده على الصوفا وقال بنبرة من نجا لتوّه من مصيبة: نشّف معين دبقي، هاتي لي كاس ماء، وستعرفين الحكاية! وبعد الماء، طلب نبيه فنجان قهوة· وفي هذه الأثناء تخلقت الرواية الملائمة·
روى نبيه لصهباء المندهشة أن معين قضى ليلة هائماً في شوارع المدينة لأن هاجساً خطيراً سيطر عليه منذ تصور أن دوره في الحياة الوطنية شاعراً ليس كافياً فغزم على التوجه إلى الأرض المحتلة والإنضمام إلى ثوّارها الذين يقاومون الإحتلال في جبال الخليل· وقال نبيه إن معين أيقظ صديقه ياسر عرفات من نومه وأقنعه بأن يتدبر أمر إيصاله إلى معاقل الثوار، وأننا، هو وأنا، أدركناه وهو ينتظر استكمال مستلزمات الرحلة، ولولا تدخلي، أنا فيصل، وقوة حججي ودالّتي على ياسر عرفات لكان معين الآن في السيارة التي هيئت لنقله· وعقبت صهباء التي تصورنا أنها صدقت الرواية: معين فيه الخير، بس إيش لزومها حكاية الخليل· معين شاعر وقائد سياسي، وهذا ليس قليلاً أبداً

الصفحات