أنت هنا

قراءة كتاب دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟

دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟

وجدت في مجلس عرفات عدداً من الذين أعرفهم ومنهم سعيد حمامي، الذي غدا من المقربين جداً إلى الزعيم، وحين دخلت قدمت فتوح ليدخل قلبي ثم تبعته، فهل أدرك عرفات ما توخيته حين لم أجئ بمفردي؟ ليست أدري.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

أحببت أنا معين على عيبه، كما ألفت أن أقول، وتأثرت بغنى شخصية وتعدد وجوهها· وقد ينبغي أن أقرّ بأن افتتاني بشخصية معين وما فيها من متناقضات أسهم في تليين تزمتي في الحكم على سلوك الناس وأعتقني من أسر الحرص على الاستقامة الحادة· وبالرغم من أني لم أفلح في طيّ هذا الحرص، فإني صرت أقرب إلى تفهم نزوات الآخرين· ونبيه الذي ك ان أكثرنا تزمتاً كلما تعلق الأمر باستقامة السلوك كان أكثرنا تساهلاً إزاء نزوات الشاعر الشيوعي ومبازله· وكلما شكا أحد سلوكاً لمعين، كان نبيه يبتسم ويقول: بابا، هذه التي سكنت لسانه لكثرة ما تعامل مع سكان حيّه من الأكراد، ثم يضيف: أهم ما في معين أن يظل يكتب، شعره جميل، وكتاباته مؤثرة، لماذا تريد منه أكثر من هذا! حنّا، الحفيّ مثلنا بمعين، لم يمحص الوافد الجديد على الشلّة حبّاً بغير تحفظ· كان حنّا ما يزال ذلك المنحدر من وسط يعلي شأن النزاهة واستقامة السلوك وقيم الفرسان، حتى مع أنه هو نفسه ليس متزمتاً· وكان نموذج حنّا في الرجال هو الطروسي، ذلك الذي جعل منه حنّا في الشراع والعاصفة فارساً مطيّيته مركب بحري· ولئن كان معين فارساً في واحد من وجوهه، هو ذلك لاذي يبرز خصوصاً في الشأن العام، فقد كانت له في الشؤون الخاصة أوجه سلوك أخرى· وقد أحبّ حنّا الوجه الأوّل وضاق بغيره، ليس لأن حنّا غير متسامح، فهو في واقع الأمر عميق الفهم لأوجه الضعف البشري، ولكن لأن معين في رؤية حنا له لا يبذل جهداً للتسامي على ضعفه مع أنه مطالب بأن يراي مكانته بما هو، عند حنّا، قدوة: على عيني الشعر والشعراء، الشيوعية والشيوعيون، فلسطين وقضيتها، النضال والثبات في المعتقلات، يقول حنّا هذا مستعيداً ما يتميز معين به، ثم يستدرك: لكن أن تكون حريصاً على هذا كله، أن يكون لك مجده، يعني أن تظل بين الأخيار أخيرهم يردَّ حنّا بهذا الإستدراك على تسامح نبيه، ويستريح فيخلّ تزمته، فيرفع كأسه ويشملنا بنظرة غدت لتوّها متسامحة، ويهتف: كأسكم يا أحبائي، وكاس جينبا معين!
سعيد حورانية لم يبزّنا جميعناً في حبّ معين، فحسب، بل بزّنا أيضاً في تقدير موهبته الشعرية· كان سعيد حورانية، في سلوكه فارساً ندر أمثاله، معطاء، وصادقاً، وصريحاً، وجريئاً في صراحته، بل جارحاً، وكان في استقامته صارماً كحدّ السيف· إلا أن هذا القاص المبدع كان أكثر من عرفت من الأدباء فهماً لدوافع البشر ونوازعهم ونزواتهم، فكان شديد القدرة على فهم نقاط ضعفهم· وحين يتعلق الأمر بالمبدعين، كان اهتمام سعيد ينصبّ على ما يحرر الموهبة أو يقيّدها ويحكم على السلوك بهذا المعيار· لم يتسامح سعيد حورانية أبداً إزاء الإنحرافات أو النذالات، أما النزوات التي لا تصدر عن روح منحرفة أو نذلة فكان يلتقط دلالتها على التوق إلى حياة غنيّة، والحياة الغنية، عنده، هي المنبع الذي يمدّ الموهوب بمادة إبداعه· وما كان أشدّ ضيق سعيد بالأدباء الذين لا يدخلون في التجربة أوالذين تنحصر اهتماماتهم في مجالات ضيّقة· وعند سعيد حورانية هذا، كان معين شاعراً مجبولاً بالموهبة· وقد رأى سعيد في نزوات الشاعر ما ينمّ عن التوق إلى إطلاق الموهبة· أما ما أخذه سعيد على معين فكان قصور الشاعر عن تمثل التجربة الغنية التي يغرف منها وتعجله في الكتابة والنشر وقلة صبره في مراجعة ما يكتبه وتنقيحه قبل نشره· وقد ظل سعيد على اعتقاده بأن معين ينتج شعراً ومسرحاً شعرياً أقلّ جودة مما تيحه له موهبته، ودأب على أن يصارح صديقه برأيه هذا ويحثه على المماهاة بين المهبة وإبداعاتها· وبتأثير سعيد ومثابرته على انتقاد تعجل معين، أو لهوجته، كتب معين في دمشق بعضاً من أجمل قصائده·
سعيد مراد كان له مع معين شأن آر، أحبّه كما أحببناه، وعُني بشعره دون أن يشارك سعيد جورانيه افتتانه الزائد بموهبة معين الشعرية أو ضيقه بالفارق بين مستوى الموهبة ومستوى تجلياتها· رأى سعيد مراد أن هذا هو معين لا أكثر ولا أقل، في موهبته كما في إنتاجه كليهما· وحياة الشاعر، سلوكه المتوثب، تنقلاته بين نهاية ونقيضها، الحكايات التي يعيشها والحكايات التي يرويها، هي التي فتنت سعيد مراد، ما يرضي الآخرين منها وما يسخطهم· وقد ألف سعيد مراد أن يردد كلما ذكر معين: أجمل قصائد هذا الشاعر وأعظمها هي حياته هذه التي يعيشها وسعيد مراد، هذا الذي تختزن ذاكرته كنوزاً من وقائع الحياة الثقافية العربية وشؤون روادها، هو الذي استحضر زجلاً قديماً قاله صلاح جاهين في الخمسينات· في هذا الزجل وجه الفنان المصري تحية للشاعر الفلسطيني بمناسبة صدور ديوانه الأول· وكان سعيد مراد يردد مطلع هذا الزجل كلما تجلى الشاعر في مجلس واسترقت روحه: معين يا صوت الضحايا، إرعد بصوتك معايا!
منير الحمارنة كان له شأن آخر معنا جميعاً وليس مع معين وحده· كان منير كثير المشاغل، يفترس العمل في المؤسسة الإستهلاكية التي هو أحد مدرائها نصف وقته، ويفترس العمل في الحزب الشيوعي الأردني أو للحزب الذي هو واحد من أنشط ناشطيه النصف الآخر، وتنهكه واجبات الضيافة والعلاقات الاجتماعية التي يتولاها هو الحريص على أدائها على أتم وجه· فلم يكن منير، إذاً، من المواظبين باستمرار على جلساتنا، بل كان ينضم إلينا حين تسعفه الظروف، فقط، وغالباً ما كان يجيء متأخراً· وبالرغم من أن شخصية منير لا تفتقر إلى المزاجيّة، فقد كان أقلنا انشغالاً بهموم الأدب وأقلّ من هذا انشغالاً بهموم الأدباء أنفسهم، واعتاد أن يتابع مسارتنات حين تتناول الأدب والأدبا بوصفها من المشاغل التي لا تعنيه إلا بمقدار ما تتصل بدور أصحابها في الحياة العامة· لكن منير كان يتدخل بتعليقات حاذقة ومبتكرة فيؤكد انتباهه التام إلى مدارات الأحاديث وينمْ عن فهم لأدب بشي بأكثر مما يظهر· وأما حين تنعطف مساراتنا ناحية السياسة والإقتصاد والهموم الاجتماعية فلا بد من أن ينتهي مجراها إلى سيطرة منير عليه؛ كان هذا هو مجال علمه وخبرته وميدان اختصاصه، وكنّا نصغي إليه ونتعلم·
لم يقصر منير في إيلاء معين ما هو لازم من مجالات ولا في إظهار الإهتمام به· لكن منير لم يكن يحامل الشاعر حين يمعن هذا في تهويلاته تماماً كما أن معين لم يكن يرتاح حين يمعن منير في أحاديثه المتخصصة· والواقع أن معين كان حذراً على الدوام من نظرة منير التي تتابعه وتخترقه وهو يروي حكاياته· وإذا استشعر معين برم منير بحكاية معيبة، كان يقطع الرواية ويرسل نحو المتبرم نظرة مجانبة ويسأل بلهجته الغزاوية ونبرتها المتميزة: إيش يا دكتور!، يجعل تاء الدكتور طاء، ويضيف: مش راكبة على الماركسية اللينينية؟، ولا ينتظر الإجابة· وكان منير يصمت، فيظهر صمته أكثر مما كان سيظهره أي كلام أَنها فعلاً مش راكبة، فيضطرب معين لأنه يدرك أن السلوك الذي نمت عنه الحكاية لا يركب لا على الماركسية اللينينة ولا على غيرها· أما إزاء التهويلات التي لا تخول منها حكاية يحكيها معين والتي نلا يكفي حتى الصمت البليغ للتعبير عن استنكارها، فكان منير يفصح عن رأيه بطريقة لا يتقنها غيره؛ يقاطع الرواية، ويرفع كأسه فجأة ويدق به كأس معين دقة مجلجلة وهو يهتف: أبو توفيق، وهذه هي كنية معين، أشرب كأس الصدق!

الصفحات