وجدت في مجلس عرفات عدداً من الذين أعرفهم ومنهم سعيد حمامي، الذي غدا من المقربين جداً إلى الزعيم، وحين دخلت قدمت فتوح ليدخل قلبي ثم تبعته، فهل أدرك عرفات ما توخيته حين لم أجئ بمفردي؟ ليست أدري.
أنت هنا
قراءة كتاب دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟
2
نفحات من غزة تصلني بالوطن وناسه
أفلح الشاعر السوري البعثي علي الجندي في اجتذاب الشاعر الفلسطيني الشيوعي معين بسيسو إلى دمشق والإقامة فيها· إغواء معين لم ييحتج إلى جهد كبير· فهذا الغزّاوي الذي لم تحتل مدينته إلا للتو كان مسكوناً بروح مغامرة وتوق إلى التنقل لا يبيحان له أن يستقر في أي مكان· وعندما وقعت حرب حزيران/ يونيو، كان معين قد قدم من غزّة في زيارة بيروت فانقطعت سبل عودته إلى مسقط رأسه، ووجد نفسه وقد انضمّ إلى جموع اللاجئين الفلسطينيين المبعدين عن وطنهم الممنوعين من العودة إليه· وصار على معين الذي خبر سجون مصر السياسية أن يجد مكاناً تتوفر فيه إقامة مأمونة ومصدر رزق· ولا بدّ من أن الشاعر الشيعي كان مفتوناً بسمعة النظام السوري، هذا الذي تضم حكومته وزيراً شيوعياً ذائع الصيت وينتهج أكثر السياسات تشدداً ضد الصهيونية والامبرذالية والرجعية· فلم يكن صعباً أن يرحب معين بالعرض الذي حمله علي الجندي إليه فيحمل هو حقيبته ويتوجه إلى دمشق ويستقدم أسرته إليها·
في دمشق، تعرف معين علي محمد الجندي، وكان هذا أفيد له من علي وأشدّ وفاء· وقدم محمد الوافد الجديد إلى صفوة الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية في البلد وأضاف جهده في هذا المجال إلى ما فعله الشيوعيون وأصدقاؤهم، فطاب لمعين المقام·
كان محمد الجندي مديراً عاماً لمؤسسة الوحدة الحكومية ورئيساً لتحرير جريدة الثورة التي تصدر عنها· وكان هذا الإنسان متميزاً من عدّة وجوه؛ فهو في حياته الخاصة راهب عصيّ على الفساد، دون أن يكون متزمتاً ضد انغماس سواه في اللذائذ· وفي السياسة، كان محمد شديد التشبث بقناعاته، يدافع عن مواقفه اليسارية بضراوة، ويهاجم الخصوم بضراوة أشدّ، لكنه لا يقفل أُذنيه إزاء الرأي الآخر· وكان هذا البعثي بريئاً من البغض الذي يختزنه بعثيون كثيرون لحلفائهم الشيوعيين· ومن هذه الناحية بالذات، كان الرجل من أكثر الموالين لكتلة القيادة استقامة في التعامل مع الشيوعيين وأي يساريين آخرين، فهو لا يتردد في بسط اختلافاته معهم، لكنه لا يفرط بأي فرصة لعقد الصلات بهم وتمتين التحالف· وإلى هذا، كان محمد الجندي حريصاً على رعاية من يتوسم فيهم موهبة أو كفاءة؛ فهو بريء، أيضاً، من العجيب الذي يضم رؤساء المؤسسات الذين يسدّون فرص التدم أمام من يفوقونهم في اتلموهبة أو الكفاءة· وقد تجلت مزايا محمد الجندي كلها في حالة معين· فوفّر البعثيّ للشيوعي عملاً محترماً في جريدة الثورة، وأولاه مسؤولية تحرير الصفحة الثقافية، وأفرد له زاوية يومية علً صدر الصفحة الأولى، ووقف إلى جانبه إزاء سخط الساخطين على ما يكتبه الشيوعي حادّ اللسان· وسمى معين زاويته هذه من شوارع العالم، وكانت زاوية أخّاذة، ذلك أنها كانت نابضة بالحياة والطروحات المثيرة للجدل·
وإلى عمله في الثورة، مدّ معين نشاطاته على غير مجال، فكتب التعليقات السياسية للإذاعة كما كتب المسلسلات، وكتب أعمالاً مسرحية عديدة، لعلها جلّ ما كتبه للمسرح طيلة حياته· وزهت روح معين الشعريّة، فكتب وهو في دمشق باقة من أجمل قصائده· وفرد الشغوف باجتذاب الإهتمام حضوره على ساحات النشاط السياسي والثقافي والإجتماعي في العاصمة السورية، وصار في كل منها نجماً· وكنت تجده في أي مكان نيحلّ فيه، في الليل كما في النها، مشغولاً بشيء ما وشاغلاً سواه بشيء، لا يهدأ، ولا يبيح لأحد حوله أن يهدأ· كان قدوم معين إلى دمشق أشبه بقدوم عاصفة، وكانت انطلاقاته فيها أشبه بانطلاق الصواريخ من الراجمة ذات الفوهات المتعددة· وشملت علاقات معين ناساً من مختلف المستويات، من ناس القمم أو ناس القيعان، فكان بين أصدقائه حراس بوابات وموظفو استقبنلا وخدم مطاعم ومقاصف وسواقو سيارات، مثلما كان بينهم زعماء سلطة ومعارضة وصحافيون وكتاب وممثلون وموسيقيون وأدباء من أي نوع أو درجة·
كانت لمعين شخصية مركبة· وعلى كثرة ما عرفت من الناس، لم أعرف شخصاً واحداً يشبه معين· وفي كل واحد من وجوده شخصية، كان معين يذهب إلىحد النهاية إن كان للنهايات حدود· فهو يجدّ في مقام الجدّ فيبزّ أكثر الناس صرامة، ويأسى فيذكر بالخنساء، ويبتذل فتتذكر أبا نواس· إن أقدم معين فهو أجرأ المغامرين، وإن تحسّب فهو أعقل العقلاء؛ يهاجم غيفارات فيأخذ عليه روح المغامرة ثم يكتب مسرحية عن غيفارا فيمجد فيه هذه الروح بالذات؛ يشنّع على التقدميين فيجعلهم مسخرة المجالس ويدافع عنهم إلى حدّ المجازفة بالتعرض لأي أذى؛ يطلق لسانه في انتقاد البعثيين، شعراً ونثراً وحكايات ويكتب مدافعاً عن سياستهم كما لا يكتب غيره؛ يهاجم عبد الناصر ويحمله أشنع المسؤوليات ويدافع عنه ويشتبك مع خصومه ومنتقديه· يحبّ معين فيذل نفسه لمن يحب ويبغض من أحبّه ذاته فيذلّه ببغضه له؛ يصدق فيجيء بالصدق خالصاً من أي شائبة، ويكذب فيهوّل وتتوه وأنت تتابعه؛ يمعن في الولاء فيبلغ حدّ التولّه، ويشتط في الخصام فيبلغ حد القطيعة؛ وكثيراً ما يأتي المتناقضات إزاء الشخص ذاته أو الموقف ذاته·
غير أن هذا الإنسان، مع نوسانه الدائب بين نهاية ونقيضها، انتظمت سلوكه عدة ثوابت وبلغ في ثباته أيضاً حدّ النهاية· فإيمان معين بالشيوعية ظل تام الثبات وكذلك حبّه للإتحاد السوفياتي· وولاء معين لقضية فلسطين شكل السمة الأشدّ ثباتاً في شخصية· أما كرم معين وسخاؤه الذي يبلغ حدّ الإسراف وحفاوته بالضيوف والأصدقاء ولهفته على تقديم العون لأي محتاج إليه، فظلت ثوابت لا يبدلها تبدل الظروف ولا تقلب الأحوال بين اليسر والعوز·
تعرفت على معين فور وصوله إلى دمشق· بحث هو عن الشيوعيين منذ وصوله، وكان مستقبلوه الأوائل بعثيين، وكنت أنا على صلة بالطرفين، فما أسرع ما التقينا، وكان من المتعذر أن لا أنجذب إليه أنا الذي قرأ له وسمع الكثير عنه قبل أن يلقاه·
وقتها، كنت لا أجد الراحة من عناء المشاغل الكثيرة إلا حين تضمني جلسة ألفنا أنا ونخبة من الأصدقاء أن نعقدها في منزل واحد منا كل مساء تقريباً· كنّا شلّة متجانسة، شكل الدكتور نبيه ارشيدات وحنّا مينه وسعيد حورانية والدكتور منير الحمارنة وسعيد مراد وأنا نواتها الدائمة· وكانت لقاءات الشلّة تجتذب آخرين، نختار عن بعضهم وتجيء ببعضهم ظروف طارئة· ولم يلبث أن انضم معين إلى النواة وصار المنزل الذي يقيم فيه واحداً من المنازل التي نسهر فيها·