وجدت في مجلس عرفات عدداً من الذين أعرفهم ومنهم سعيد حمامي، الذي غدا من المقربين جداً إلى الزعيم، وحين دخلت قدمت فتوح ليدخل قلبي ثم تبعته، فهل أدرك عرفات ما توخيته حين لم أجئ بمفردي؟ ليست أدري.
أنت هنا
قراءة كتاب دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟
كان عطية المقداد معلم مدرسة· هو رجل حاد الطبع متشدد في أحكامه على الآخرين مثلما هو متشدد في أوجه سلوكه وتفكيره كلها؛ يجادل فيبدو كمن يقاتل، وينتقد فيبدو كمن يرجم حجارة· وكانت معايير عطيه ضيقة فضلاً عن أنها صارمة؛ وهو من الصنف الذي يمكن وصفه بأنه الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب أو أي شهر آخر· وبالرغم من هذه السمات، اجتذبتني في الرجل مزايا ألفت أن أقدّرها حتى وأنا أضيق بسلوك أصحابها· فهو، مع صرامته وتجمهم الدائمتين، مباشر العبارة، صريح لا يلتوي في القول، وهو عفيف النفس صارم في المطابقة بين سلوكه ومعتقده، لا يماليئ ولا يراوغ· حتى مع معين، وهو من فتح لزميليه في دمشق أبواب العلاقات التي حظيا بها، كان أبو طلعت صارماً وكان يرى في الشاعر المتفلت من الضوابط شخصاً لا يصلح للعمل الحزبي· وكان تركيز معين على ذاته ومزجه الشخصي بالعام موضع انتقاد عطيه الدائم· والواقع أن معين كان يهاب هذا الرجل ولا يحبّه·
عبد الرحمن عوض اللّه كان هو الآخر معلم مدرسة· لم يكن أبو حيدر أقل تشدداً من زميله حين يتعلق الأمر بالسلوك الشخصي، غير أنه بدا أميل إلى التسامح إزاء نزوات الشاعر وكان هو نفسه من الذين يكتبون الشعر· وعبد الرحمن هذا كان شاباً لا يكبرني إلا ببضع سنوات، سكن حبُّ الشيوعية وتعلق هو بمثلها المتداولة كأنه صوفيّ يسكنه الوجد· وقد خبر الشاب سجون مصر معتقلاً فيها مع الشيوعيين المصريين· وكان أبو حيدر في السجن نموذجاً لشيوعي قادم من مجتمع مغلق ومحافظ: إلتزام كامل بما يعدّه هو المبدأ، وتزمت في الولاء إلى حدّ السذاجة، ومعرفة شحيحة بالشؤون النظرية، شيوعية على السماع إن جاز التعبير، أو على الفطرة بتعبير أدق· وكانجهل الشاب بما وصلت إليه أحوال المجتمعات المتقدمة لافتاً للنظر· وهل يمكن أن لا يلفت النظر هذا الإنبهار الشديد إزاء ما قد يبهر حقاً وإزاء ما لا يبهر إلا ذوي الفطرة الصافية!
لم يكن هذا الذي سيصير واحداً من أصدقاء العمر من أبناء غزّة الأصليين، فهو لاجئ فيها وفد إليها مع أُسرته طفلاً، كما وفدتُ أنا مع أُسرتي في العام 8 4 9 1، قادماً من اسدود، وفيها تعلم ثم التحق بالأونروا معلماً في إحدى مدارسها· وكما فعل كثيرون من أبناء جيله، سعى عبد الرحمن إلى تحسين ظروف حياته في اللجوء، وانتسب، وهو يعمل، إلى جامعة القاهرة ودرس اللغة العربية وأدبها، إلا أنه، مثله مثل المنتسبين إلى الجامعة عن بعد، لم يعرف من الحياة الجامعية سوى أيام الامتحانات وهواجسها· أما الماركسية التي تعلق بها هذا الشيوعي بالفطرة، فلم يتسن له أن يلمّ بنظريتها إلا عبر ما تلقاه منها على أيدي رفاقه الشيوعيين المصريين في السجن·
أحببت عد الرحمن هذا منذ عرفته، جذبني إليه إخلاصه الصافي للقضية التي يتولاها وتوقه إلى أن يفعل جديداً من أجلها في كل يوم جديد، وفتنتني براءته مثلما فتنتني قدرته على التعلم· كانت حياة التشرد والخبرات التي وفرتها لي تجربة سورية الغنية والتقلبات المتواترة والأسفار قد قضت على براءة إبن القرية الذي كنته أنا وأطفأت حسّ الدهشة فيّ· فطاب لي أن أقع على عبد الرحمن وأراقب دهشته حين يكتشف ما لم يعد يدهشني، مثلما طالب لي أن أراقب فيما بعد انفلاته أولاً بأول من أسر البراءة·
لم يعترف أي من الأحزاب الشيوعية، إذا استثنينا بعض المنظمات المصرية، بالحزب الشيوعي في قطاع غزّة· تفرق الشيوعيون الفلسطينيون الذين شتتهم نكبة 8 4 9 1، فالدين بقوا منهم حيث نشأت إسرائيل ضمهم الحزب الشيوعي الإسرائيلي، والذين آوتهم الضفة الغربية أو لجأوا إلى ضفة الأردن الشرقية أسسوا مع رفاقهم الأردينين الحزب الشيوعي الأردني، والآخرون الذين التجألوا إلى بلدان أخرى التحقوا بالأحزاب الشيوعية الناشئة فيها· وانت هذه جميعها أحزاباً معترفاً بها في إطار الحركة الشيوعية العالمية· شيوعيو غزة وحدهم، من كان منهم من سكان القطاع ومن لجأ إليه، أسسوا حزبهم الصغير هذا وعانوا ما عانوه مما عاناه الشيوعيون الآخرون وربما أكثر، دون أن يظفروا بإعتراف الأحداب الشقيقة بحزبهم· هل حُزم حزب غزة من الإعتراف به لأن الأحزاب الأخري عدّته ملحقاً بمصر، أم لأنها لم توافق على برنامجه، أم لأنها لم تأبه لوجوده، أم لأن قطاع غزّة لم يكن جزء من دولة قائمة؟ لا أملك إجابة يقينية· وكل ما أنا متيقن منه أن اسم الحزب برز مجدداً في سيقا بروز مقاومة غزة للإحتلال الإسرائيلي وصار من الممكن طرح مسألة الإعتراف به· غير أن موقف هذا الحزب من قرار مجلس الأمن الشهير 2 4 2 عقّد المسألة· فالحزب الغزّاوي تميز عن نظرائه العرب وغير العرب بالجهر بمعارضته قرار مجلس الأمن· وقد انطوت هذه المعارضة على معارضةٍ لموقف الإتحاد السوفياتي المؤيد للقرار· ولم تتحمس الأحزاب الشيوعيّة للإعتراف بحزب غزّة حتى مع انتباهها إلى دوره في المقاومة·
وعندما طرح طعيّة وعبد الرحمن ومعهما معين المسألة من جديد، ساندهم في دمشق آخرون تقدمهم نبيه ارشيدات المفتون بالمقاومة الغزاوية للاحتلال الإسرائيلي ودور شيوعيي غز{ فيها· وانضممت أنا إلى امساندين· وأوصلنا الأمر إلى خالد بكداش المعترف به عميداً لشيوعيي المنطقة وليس أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوري وحده· وفي مقابل جهودنا، وقف كيرون ضد منح حزب غزّة الإعتراف به· وكانت تحفظات الحزب الشيوعي الأردني هي الأصلب· وقد عدّ هذا الحزب اعتراض شيوعيي غزّة على القرار 2 4 2 سبباً لرفض الإعتراف به· وفي الحوار مع بكداش، قال الشيوعي الكبير: لو كنت شيوعياً في غزّة لربما أجزت لنفسي رفض قرار مجلس الأمن· غير أن القرار بالنسبة لنا سلاح نضغط به على إسرائيل بقوة الشرعية الدولية لحملها على الإنسحاب، سلاح مع أسلحة أخرى، وهو ليس قراراً مقدساً وقال بكداش ما بقي محفوراً في ذهني: ليست الوثائق هي ما يقدسه الشيوعي، بل المبادئ، با رفاق! ولكي لا يصطدم بكداش بأي شيوعيين آخرين تعهد أن يقدم حزبه لشيوعيي غزة أي مساعدة يقدر عليها، ورأى أن المطلوب للتوّ هو إيصال صوت المقاومة إلى الخارج والظفر بالتأييد العلمي لها· أما إعلان اعتراف رسمي بالحزب الغزّاوي فقد رأى بكداش إرجاءه إلى أن تنضج ظروفه: نحتاج إلى وقت كي يقتنع الآخرون· ولا ينفعنا ولا ينفع شيوعيي غزة أن ينفرد حزبنا وحده بالإعتراف بهم، ليثبتوا حضورهم الواقعي فيصير الإعتراف تحصيل حاصل، عندهم الجبهة الوطنية المتحدة فليستخدموا رايتها، فهذا مهم مثلما هو ممكن
أول نشاط عالمي وفّر المفتاح الشيوعي السوري لشيوعييي غزة المشاركة فيه جرى في برلين عاصمة ألمانيا الديمقراطية، حيث عقد مجلس السلم العالمي أحد مؤتمراته الكبيرة· وقد آثر الذين سعوا لتمثيل جبهة غزة الوطنية في هذا المؤتمر أن يمثلها عبد الرحمن عوض اللّه وليس عطية المقداد· وتوجب على عبد الرحمن أن يستعد لأول سفراته إلى أوروبا· لقد كان في غزة مثل دارج: من حرّها إلى الدودجْ، وهو مثل يصور حال من ينتقل فجأة من امتطاء ظهر الحمار إلى امتطاء سياردة دودج الفاخرة· وقد كان كان هذا، في نحو ما، هو حال عبد الرحمن حين اقتضى الأمر أن تحيك القادم من غزة المعلقة المحافظة بالمجتمع الأوروبي في سُرَّةِ أوروبا، برلين بالذات·
تعاونا، نبيه ومنير وأنا، في إعداد صاحبنا للإنتقال من حرّها إلى الدودج في صورة لائقة· وكان في هذا ما يشبه إعداد بدوي للزواج بأميرة· وفي نهاية مساع وجدالات طويلة، تزود عبد الرحمن بما يلزم من عدّة ومعلومات أضافتها إلى إخلاصه ورغبته في النجاح وذهب بها إلى برلين· والحقيقة أن الرجل أدى المهمة على أتمّ وجه ممكن ولا بدّ من أن صدق القادم من حرارة التجربة قد عوّض قلة خبرته· وهو على أي حال لم يُضعْ دقيقة واحدة دون أن يستثمرها في ما هو مفيد· ولا بأس في أن أُقرّ بأن قدرة عبد الرحمن على التصرف السديد في أول مهمة من نوعها يتولاها قد أثارت عجبي بمقدارما عززت إعجابي به: وفّر للمخلصين فرص المبادرة تر العجب!
وها أنا ذا أتذكر صاحبي ونن في منزلي بعد عودته من برلين، وهو يروي لي وقائع رحلته، وتعابيرالدهشة تتوالى على صفحة وجهه· ولعل العائد من احتكاكه الأولى بالغرب أدرك أن ما أدهشه لم يدهشني، فشاء أن يجيء بواحدة تحملني على الإندهاش مضحياً بما ظن أنها الحاجة إلى التكتم على نقائص الشيوعيين· واجهني صاحبي بعينين مفتوحتين ورأس مائل، يميله كلما هم بقول ما هو خطير، ثم قال هامساً دون أن نكون في خلوتنا تلك بحاجة إلى الهمس: بس يا رفيق، شفت في برلين شيء غريب، وانتظر أن أستحثه، فلما لم زفعل نسي حذره ولم يعد يهمس: الناس هناك، في البلد الإشتراكي، تقبّل بعضها في الشوارع دون حياء! أدركتُ دون شك سبب دهشة صاحبي الذي يعدّ تقبيل الرجل غير زوجته إباحية حتى لو جرى في الخفاء ويرى أن هذه الإباحية لا تليق بمجتمع يقارع الامبريالية ويبني الشيوعتية· غير أني لم أتعقل كما توقع المندهش، ويبدو أنه تصور أني لم أدرك ما يرمي هو إليه فهتف: اللّه أكبر شيوعية وقلة أخلاق! كان عبد الرحمن منفعلاً كأن الشيوعية كلها في خطر، فحاولت تهدئته، وقلت إن لكل مجتمع عادات قد لا يستسيغها مجتمع آخر، والناس في المجتمعات الأخرى يأخذون هذه الأمور ببساطة ولا يستقبحونها كما قد يستقبحها مجتمعنا، فاشتد انفعاله صاحبي، ونفث دخان سيجارته بعصبية، وقال، مورداً ما عدّه أقبح من أي قبيح: أنا لا أحدثك عن عامة الناس هناك، الشيوعيون، أيضاً، يفعلونها، رأيتهم بعينيّ، الرفاق، يا رفيق!
كثر تردد عطية وعبد الرحمن على دمشق، هما اللذان توزع وقتهما بينها وبين عمان· وعبر صلات زائريّ بغزّة، تعرفت على كثيرين وفدوا منها للإلتقاء بهما وتيسرت لي من جديد أقنية لإيصال أخباري إلى أمي المقيمة فيها وتلقّي أخبارها· قبل هذه الأقنية، وكما لا بد من أنك تتذكر، كان الطالب البعثي الذي درس في جامعة دمشق إميل صبيح هو الذي يتولى هذه المهمة في روحاته إلى غزة وغدواته منها· غير أن إميل استقر في دمشق بعد تخرجه من الجامعة وشغل هو البعثي منصباً حكومياً فيها وأقعدته شاغلة عن السفر إلى غزّة واستقدم أسرته إلى دمشق· فانقطعت صلتي بأمي عدّة سنوات·
وهنا· استطرد لأقول لك إن خطي حين يتعلق الأمر بتوقي المزمن إلى الإلتقاء بأمي كان تعيساً· فارقت أمّي يوم فارقت غزة في العام 9 4 9 1· وكان التفكي بزيارة غزة في السنوات التالية ترفاً لا تبيحه الظروف· وعندما حصلت على عمل مستقر في العام 7 5 9 1 وصار بالإمكان بعد ذلك توفير نفقات الرحلة، وجدتني منهمكاً في العمل العام وصار اسمي، أنا الذي صار بعثياً، في قائمة الممنوعين من دخلو مصر التي لا يمكن الوصول إلى غزّة إلا عبرها· ثم جاء الإحتلال الإسرائيلي فانسدت المنافذ علي وعلى غيري· أما أمي فقد غرفت في شؤون أسرتها وزوجها الثاني· وتوات اضطراب أحوال هذه الأسرة مع اضطراب أحوال القطاع واللاجئين فيه· ولم تتمكن أمي من المجيء إلى دمشق فبقيت محرومة من الإلقتاء بي وبوالديها وأخواتها وإخوتها· وكان أخواي إبنا أمي من زواجها الثاني، قد كبرا، فارقت محمد ورباح فميا الأول في أول مشيه والثاني في القماط، وتوالت السنون وتوجه الأخوان إلى دراستهما الجامعية في القاهرة دون أن ألقاهما·
ولم أكنأنا الوحيد في دمشق التائق إلى رؤية أمي وإبنيها· فجدي عبد المجيد المتجه نحوالسبعين كان هو الآخر شديد التوق إلى الإلقتاء بابنته وحفيديه· إفترق جدي عن إبنته في العام 8 4 9 1، في الظروف التي رويت لك تفاصيلها· وقتها، كانت الخصومة التي اشتعلت بين جدي وأمي بسبب الخلاف على مصير ميراثها من أبي ما تزال تسمم العلاقة بين الإثنين فافترقا وهما متخاصمان· ومنذ العام 8 4 9 1، جرت مياه كثيرة تحت جميعالجسور وعسلت ضغائن كثيرة غير أنها لم تطفيء أى جدي وندمه على تسببه في إخفاق ابنته الكبيرة عليه، وظل الجدّ تواقاً توقاً يفصح نه بلا مواربة إلى الظفر بمسامحتها له· وكان الجد يفصح عن حنينه إلى الغائبة كلما اشتدت عليه أوجاع الفراق بالرغم من أنه ابن جيل يتحرج ناسه من الإفصاح عن مشاعرهم خصوصاً أمام الصغار· ولم يرد ذكر أمي مرة أمام الجد إلا غطت وجهه سحابة كمد لا تخطيء أي عين استخلاص دلالتها· ولم تجر أي مقارنة بين أمي وأي من أخواتها إلا انحاز الجد إليها هي؛ إذا ذكر الجمال فإن لبقة، عند جدي، هي أجمل نساء الأرض قاطبة، وإذا ذكر الذكاء، أو الكرم، أو الأخلاق، فهي دائماً الفائزة·
أما جدتي مدللة، فلا توجد لغة تستوفي وصف حنينها إلى إبنتها البعيدة وحفيديها· وعلى تكتمها المزمن حين يتعلق الأمر بالمشاعر، لم تتحفظ الجدّة في الجهر بشقها إلى الغيّاب: يا رب خلّني أرهم مرة واحدة قبل أن أموت وخذ روحي! كانت الجدة تبثّ هذا الدعاء بمثابرة وتردفه بالإستنجاد بالرسل والأنبياء والأولوياء وجميع الصالحين كي يتشفعوا لها عند ربّ العالمين فيستجيب لدعائها· ولم أزر جدتي مرة إلا جعلت هي ذكر أمي أهتم موضوعات اللقاء ولعنت الزمان الذي تفرق فيه شمل أهل فلسطين وتشتت الأسر· وكان يحدث أن أجيء إلى جدتي بأحد القادمين من غزة فتستقبله استقبال صديق عزيز وتفرط في الترحيب وهي تكرر يا ريحة لبقة!، وتغالب تأثرها كيل لا تفيض الدموع التي تحرص على كتمانها· حتى معين الذي تاق إلى رؤية جدتي لكثرة ما حدثته عنها، استقبلته الجدّة بوصفه من ريحة لبقة مع أنه لم ير أمي أبداً·
كانت تلك كلّها نفحات من غزّة تتوالى فتعزز حضور الوطن البعيد في روحي أنا المحروم من الإقامة فيه وتبقيني على صلة بناسه أنا البعيد عنهم·