أنت هنا

قراءة كتاب دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟

دروب المنفى (5) أين بقية الحكاية؟

وجدت في مجلس عرفات عدداً من الذين أعرفهم ومنهم سعيد حمامي، الذي غدا من المقربين جداً إلى الزعيم، وحين دخلت قدمت فتوح ليدخل قلبي ثم تبعته، فهل أدرك عرفات ما توخيته حين لم أجئ بمفردي؟ ليست أدري.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

أدخلتنا هذه الإجابة في جدل مع صهباء المسلحة بحكمتها الثاقبة فيما معين صامت· وقال نبيه ما هو صحيح تماماً: يعتقد أبو توفيق الحبيب أن الفدائيين يبذلون دمهم وهو لا يبذل غير الحبر، وشاء منجد صاحبه أن يضيف جديداً يقتبسه مما كان معين يردده في ذلك الوقت حول هذه النقطة· غير أن اندفاعه مفاجأة من معين الذي أنقذته حكاية جبال الخليل منن حرحجة أوقفت نبيه: فهمها يا دكتور، فهمها! كيف يضحي الثوار بحياتهم ويظل معين بسيسو شاعر المقاومة قاعداً يلوك الكلام· لم يبق للفلسطينين غير الجبال واستغرفتنا المفاضلة بين الكلمة والسلاح فغابت حكاية ببيت معين خارج منزله· وبالرغم من الحجج التي عرضناها مما أوجبته طبيعة الموقف، تشبث معين بالقول إن دوره شاعراً غير كافٍ وحده، وإن الرغبة في الإلتحاق بمعاقل الثوار مستولية عليه·
وعلى أي حال، لم تتلاش هذه الرغبة التي أوقدتها الحاجة إلى التستر على مسلك معيب قبل أن ينجم منها شيء مفيد· والحقيقة أن نبيه لم يبتكر حكاية جبال الخليل من فراغ إذ أنه استحضرها لأن خلايا فدائية كانت تتحصن آنذاك في هذه الجبال وتقوم بعمليات جريئة صارت حديث الناس في كل مكان· ومنذ ذلك اليوم، زاد حضور معاقل الخليل وفدائييها في اهتمامات معين· وراح الشاعر يتابع أنباء العمليات بانتباه زائد وفتنة في نحو خاص بطولات الفدائي الشهير باجس أبو عطوان· والرواية الوحيدة التي كتبها معين طيلة حياته كانت عن جبال الخليل وكان باجس هذا هو بطلها·
قد يشوقك أن تعرف بقية حكاية معين مع الألمانية، فلتعرف إذاً، ما اكتشفناه نحن بعد أن دخل شأن هذه المرأة دائرة اهتماماتنا· فقد اتضح أن الألمانية امرأة عابثة، وأن علاقتها بنزيه كانت قد اهتزت قبل أن يلقاها معين، وأن نزيه شرع فعلاً في تدبر أمر طلاقهما دون ضجيج· وعندما لاحظ نزيه قوة تعلق الشاعر الفلسطيني بالعابثة، خشي على الشاعر من أن يؤذيه هوسه، وجاء إلى نبيه حاثاً إياه على التدخل لحماية صاحبه· قال نزيه إنه ماض في إجراءات الطلاق بالتعاون مع صديقنا المشترك القنصل العام لجمهورية ألمانيا الديمقراطية ألفرد مارتر، وقد اتفق هو والقنصل على أن يجري تسفير المرأة فور إتمام الطلاق· وقال نزيه إنه يربأ بالشاعر الكبير أن يقع في حبائل امرأة تبحث عن سبب يحول دون تسفيرها· ومن نزيه، عرف نبيه أن معين وعد المرأة باستخدام نفوذه ليبقيها في دمشق حتى لو اقتضى الأمر أن يتزوجها·
كان هذا بعداً جديداً للحكاية، جديداً وخطيراً، أُخذ به نبيه وأُخذت أنا به أيضاً· لم يعد الأمر أمر حكاية طريفة نتسلى بمتابعتها كما ألفنا أن نتسلى بنزوات صديقنا· وصار لا بدّ من فعل أي شيء لطيِ الحكاية· وهكذا، عقدنا مشاورات وأجرينا اتصالات من وراء ظهر معين، وتعاون معنا الفرد مارتر· وفي المحصلة، تم الطلاق وسُفِّرت المطلقة إلى ألمانيا الديموقراطية·
عندها، تذكر معين دعوة كانت قد وجهت إليه من اتحاد الكتاب الألمان الديمقراطيين لزيارة برلين، فتوجه إلى القنصلية بأمل أن يحصل على تأشيرة زيارة· لكن ألفرد مارتر العارف بالحكاية كلّها تذرع بالحاجة إلى الإتصال باتحاد الكتاب ما دامت الدعوة قديمة، ثم أبلعغغ إلى معين أن الإتحاد مستعد لاستقباله بعد ستة شهور وليس قبل ذلك· وأغاظ هذا الإرجاء معين حتى كاد ينفجر من الغيظ· وحين تواطأنا مع ألفرد على الإرجاء، قدرنا أن ستة شهور مدة كافية لكي ينسى معين خلاسها ستّ نزوات وليس نزوة واحدة· ولم يطق المحموم بنزوته الإنتظار، فغافل يقظتنا وسافر فجأة إلى بلغاريا· ولما لم نكن بغير حيلة ما دام ألفرد مارتر إلى جانبنا، فقد سمح معين من القنصل الألماني الديمقراطي في صوفيا ما سمعه من نظيره في دمشق: بعد ستة شهور
يوم عودته من دمشق، اتصل معين بي من المطار: هل ما يزال في صفحتك مكان لمقال كتبته وأنا في الطائرة؟ حملت النبرة لهيب غضب فأثارت هواجسي· وجاء معين بغضبه إلى مكتبي من المطار مباشرة ومعه مقال تصدره هذا العنوان: الكلب الأبيض أخوالكلب الأسود ساوى معين بين المسؤولين الألمان الديمقراطيين والألمان الإتحاديين جاعلاً الإشتراكيين في المرتبة ذاتها من السوء الت يضع فيها، هو الشيوعي، الرأسماليين· وحتوى المقال على غمز شديد القسوة بالقوميساريين السياسيين لاذين لا يقيمون وزناً لمشاعر بني البشر·
لم ينشر المقال· كان كافياً أن أذكّر معين بشيوعيته وما يمكن لأعداء الشيوعتية أن يكسبوه من مقاله· فطوى الساخط أوراقه، ورماني بنظرة يمتزج فيها الغيظ والإذعان لمتطلبات المصلحة الشيوعية، ونتر حقيبته نتراً وانصرف· ولم يحتج الأمر لانقضاء ستة شهور، فقد نسي معين الحكاية كلها للتو، ولم يجيء على ذكرها بعد ذلك أبداً·
في نهاية أي مطاف، لم يحترم معين امرأة في الدنيا بمقدار ما احترم صهباء ولم يحبّ امرأة بأعمق أو أدوم مما أحبّ رفيقة عمره· كان المدفوع بنزواته يشرّق ويغرّب لكنه يظل مشدوداً إلى شريكة كفاحه·
ولم يثبت معين على شيء مثلما ثبت على إيمانه بالشيوعية ولم يحب بعد فلسطين بلداً بمقدار ما أحبّ الإتحاد السوفياتي· وقد وقع أن مال معين في الشيوعية إلى ناحية أو أخرى، وربما ساءه هذا أو ذاك من مواقف شيوعي ما أو غيره، إلا أن إحساسه بالإنتماء إلى الشيوعية، هكذا بالإجمال، ظل هو الأدوم وهو الذي رسم أكثر ما في سلوكه أصالة· أما فلسطين وقضيتها فظلتا بالنسبة لمعين في مركز اهتماماته كلها، بهما يبدأ عنده أي شيء وبهما ينتهي·
حضور معين العاصف في دمشق انتهى كما تنتهي أي عاصفة: فجأة، وانطفأ عندما بلغ ذروته فبعد مسؤوليته عن الصفحة الثقافية والشهرة التي تحققت لزاويته اليومية، أو قل محمد الجندي إلى معين مسؤولية رئاسة تحرير الثورة وهذا منصب لم يتول مثله في ظل حكم البعث إلا بعثي، ولا بد من أن محمد الجندي أغاظ كثيرين حين أولاه إلى شيوعي، غير أن فترة تولى معين رئاسة التحرير لم تمتد إلى أكثر من أسبوع واحد أُقصى في نهايته عن الصحافة السورية كلّها·
في هذا الأسبوع أتي معين ما يا يحتمله أي قائد بعثي· وسأوجز لك هنا واقعتين: أول ما فعله معين يوم توليه المسؤولية وآخر ما فعله قبل إقصائه·
ففي يومتسميته رئيساً للتحرير لبى معين دعوة على الغداء وجهها له العقيد عبد الكريم الجندي· وقد باح العقيد الذي يحبّ معين ويرتاح إليه ببعض هواجسه وكاشفه بما جمعته أجهزة الأمن السورية من معلومات عن نشاطات المعارضين السوريين لنظام البعث وما يفعلونه في سعيهم لإسقاط هذا النظام· وفي اليوم التالي، ظهر أول عدد يشرف عليه معين من أعداد جريدة الثورة وقد تصدر صفحته الأولى على عرضها كله باللون الأحمر عنوان من كلمة واحدة: المؤامرة، وامتدت تحته عناوين تكشف مساعي السوريين البيض الذين يتآمرون لإسقاط النظام· وحملت الجريدة إلى القراد ما بقي في ذاكرة معين من حديث عبد الكريم الجندي· ولأن الناس، كما وصفتهم أنا، في تعقيبي السافر على الضجة التي أحدثها العدد في البلاد، كانوا شديدي التوق إلى مؤامرة تسقط العهد القائم، فقد نفد عدد الثورة من السوق خلال ساعة واحدة وصار يباع في السوق السوداء بسعر فاق سعره الرسمي بمائة ضعف·
لم يحم معين من مغبّة هذا الذي فعله إلا صدق عبد الكريم الجندي؛ فقد أقرّ المسؤول نافذ اتلكلمة هذا بأنه حكى لمعين ما حكاه ثم نسي أن يلفت نظره إلى أنه ليس للنشر·
وقبل أن ينقضي آخر أيام الأسبوع، جاء إلى معين صديقه الملحق الثقافي في قنصلية ألمانيا الديمقراطية وأبلغ إليه أن رئيس الجماعة النازية الجديدة في ألمانيا الفدرالية موجود في بغداد حيث دعي إلى إلقاء سلسلة من المحاضرات فيها· وزود الملحق الثقافي صديقه معين برزمة من الوثائق التي تبين كم هي مجرمة هذه الجماعة وحرضه على أن يكتب شيئاً ضد رئيسها المتستر بتأييده للعرب·
هنا، قد ينبغي لك أن تعرف أن بعض العرب كان مفتوناً حقاً بالنازيين الجدد· ومع انحياز الغرب انحيازاً كاسحاً لإسائيل وعدائه المقيت للعرب، بالغ الذين لا يدققون في طبائع القوى السياسية في الافتتان بهوس حفنات النازيين الجدد وما يتوسمونه من معارضتهم لسياسة إسرائيل· وفي هذا السياق، تلقى زعيم الجماعة الألمانية دعوة لزيارة العراق· وقال الملحق الثقافي الديمقراطي لمعين إن الرجل قادم إلى سورية وحثّه على الكتابة ضده·

الصفحات