أنت هنا

قراءة كتاب الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

لقد مثلت الرواية في العالم العربي إحدى سمات الفكر والتصور العربيين، إذ مثلها مثل الروايات العالمية، ساهمت في نقل التجربة العربية الإنسانية إلى العقل الإنساني رغم حداثتها مقارنة مع العالمية، ولقد أرجع النقاد تاريخ ميلادها إلى فترة1914 حيث ظهرت أول تجربة تمثل

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
دار النشر: دار المأمون
الصفحة رقم: 4

فالمتتبع للرواية لا يمكنه أن يصدر أحكامه ما لم يتمكن من معايشة تغلغل العمل الإبداعي نفسه كما لوكان هو الكاتب لا المتلقي، فشخوص الرواية إذن هم القارئ والمبدع، ولعلنا لا نذهب بعيدا إن قلنا إنهم الذين سيكونون مستقبلا"مبحث صور الذات يرتبط بشخص الآخر، وذلك يهدف على إعطاء صورة عنه وبالتالي عن الحاضر علما بأنه حاضر قد ضم إليه الماضي واحتواه"(16) فالحاضر بكل مواصفاته متلون في ذات الإبداع بذات المبدع، متلاصقان، وكلاهما ينم عن حركية في العمل، يهدف إليها العمل الروائي، والشخص المستهدف من الرواية هو عينه ذات الأديب حين تتلاحم، وحين تنصهر بكل خلفيات الماضي الذي تشبعت به، وعانقته بعفوية وإرادة أحيانا، "في البيت كان والدي قد تصدر مائدة الغداء والتهم طبقه الأول. (رئيس القلم) كان إلى جانب أختي ومن جناح الدجاجة المطبوخة انتزع عظمة رفيعة ذات فرعين فاقتسماها وتراهنا... "(17). نلاحظ أن العامل النفسي له بالغ الأثر في العمل الإبداعي إذ نرى الأديب يعيش غربة جعلته يتحول عن الداخل إلى الخارج، لكن الحنين إلى الماضي يظل حاضرا لا يبارح مكانه، ولا يتبدل رغم الأعراض المتعددة والعوامل الخارجية المتنوعة، ولذا تكون ذاته دائمة الوجود، دائمة الامتلاء والتوجيه مهما تحول عنها، أو سعى إلى تبديل ماضيه بحاضره" إن التحول عن الداخل نحو الخارج سيعمق هذه العزلة، ولئن كان الهدف المرسوم في حياة البطل مضاعفة الجانب المعرفي... لكان الإحساس الموجود والراهن يشي بعدم الاكتفاء. وهذا يدفعنا لمعايشة أجواء غربة ثانية بعد الأولى، وهي الغربة التي يتولد إليها آنا فآنا علما بأن الغربة الأولى قد تحققت في المنشأ والفصل. لذا فإن استبدال المنشأ بالخارج، والخارج بالمنشأ وهكذا في عملية تجلو عن عدم الرضا بالموجود والسائد،
فتغدو السياحة والتهيام ونشدان المعرفة أقصى درجات متعة الذات وسكناها... "(18) .
هذا ما نعيشه كذات أفرزتها عوامل الخوف والتنكر في رواية "الياطر" حين ينسلخ البطل "زكرياء المرسنلي" عن جميع أصلائه ويتبنى الوحدة والانعزال في طريق العودة أجفلت، وضحكت من جنبي، وقلت في نفسي :" أي رجل أنا ؟ ضخامتي الجاموسية، ورأسي الكبير الملبد، ولحيتي الطويلة، وحقل الشعر في صدري قمينة بإخافة ضبع، ثم أخاف من عصفور، يرف فجأة في الدغل، يطير هازئاً أو خائفا مني ؟ انسابت قبل قليل أفعى أمامي فذعرت وتراجعت إلى الوراء أحسست أن قلبي صار في معدتي، واكتشفت أن للأفعى تأثيراً مرعبا علي " (19)
إن الذات لا تفتأ تتكرر مأساتها وأفراحها، ولكن ظل الحزن يبقى له أثره الشديد الذي لا يريم، يحدث المبدع، وينفلت من عقاله بين فينة وأخرى ليحرك لواعجه ويحسسه بكينونة مستمرة خالدة لا تموت، وإن نامت طويلا مكفلة بالتلهي أو ما يشبه الغيبوبة الكاذبة، والأديب - كما أشرنا- يعايش واقعه بدقة، بما أوتي من قدرة على الإحساس وبعد النظر، وحنا مينة واحد من هؤلاء الكتاب القلائل الذين مروا بتجارب حية ضايقتهم في الحياة وآذتهم بصنوفها المتعبة لذا نراه في موقف المدافع الذي لا تلين له قناة أمام الأغنياء، قال والدي: "سأرى قائد الدرك اليوم في الكازينو، وأقول له إن رجاله ينامون بينما كرومنا تنهب، وأن وكيلنا ضبط فلاحة تمرش الزيتون في طرف الكرم فضربها وحبسها، ثم سلمها إلى الدرك، وبعد أيام أطلقوا سراحها ... هذا تهاون"
- قالت أختي مستنكرة : "ضربها؟ "
- قال رئيس القلم : "والضرب لم يعد يكفي" .
- قال والدي :"اقطع يد الفلاح اليوم تفرغ غداً "
- أكد رئيس القلم : "نعم تفرغ .. "
تساءلت أختي : " ولكن لماذا ؟ لأجل حفنة زيتون ؟... "
يادست، صاح رئيس القلم.
نحن أطعمنا الفلاحين، قال والدي.
هذا صحيح، قالت أمي (20)
حينما نتتبع هذا الحوار نحس بذاتية المبدع حضوراً وفعالية، إنه ينقل إلينا الآخر كفكر، كنمط وصيرورة، يحيا في ظلها المغبونون من الفلاحين، فكان رد فعله على لسان أفراد لم يتشبعوا بالفكر الحاقد المليء بالكراهية، إنهم باختصار إنسانيون لا يحلو لهم أن يعايشوا ألم الفلاحين أو قطع أياديهم كونهم مرشوا الزيتون أو أخذوا حفنة حبوب إن ذاته تتكلم عن ذاته من خلال شخوصه، ولكنها ترفض استسلامهم وتقهقرهم وانزواءهم خلف آلامهم يجترونها بمرارة . "محال أن يكون جميع الناس من طينة واحدة، هذه النمطية مرفوضة، غير موجودة، ومخالفة للواقع الحياتي، للطبيعة البشرية، فالخط البياني لا يمكن أن يصعد عند الجميع إلى أعلى، ولكنه بالمقابل لا يمكن أن ينزل إلى أسفل عند الجميع، كما تريد الرومانسية المأساوية، أو الواقعية غير الثورية أن تقول ... "(21).
إنه يرفض إخفاق الطبقة العاملة، يرفض استسلامها لأنها تمثل ذاته، ولأنه أحد هؤلاء الذين تكدست في حلوقهم أتعاب أزمنة برمتها، إنه يبحث باستمرار عن ذاته وهو يختار شخوصه، " مبحث صورة الذات يرتبط بشخص الآخر وذلك بهدف إعطاء صورة عنه، وبالتالي عن الحاضر علماً بأنه حاضر قد ضم إليه الماضي واحتواه.

الصفحات