أنت هنا

قراءة كتاب الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

الموروث الثقافي في الأدب العربي الحديث - الروائي حنا مينة نموذجا

لقد مثلت الرواية في العالم العربي إحدى سمات الفكر والتصور العربيين، إذ مثلها مثل الروايات العالمية، ساهمت في نقل التجربة العربية الإنسانية إلى العقل الإنساني رغم حداثتها مقارنة مع العالمية، ولقد أرجع النقاد تاريخ ميلادها إلى فترة1914 حيث ظهرت أول تجربة تمثل

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
دار النشر: دار المأمون
الصفحة رقم: 5

ولا ريب أن المبدع لا ينفلت من ذاتيته، إن هناك همّا يحمله ويسعى إلى تبليغه كلما حانت الفرصة، وهذا الهم لا يشعر به الآخرون مهما تفهموا العمل الروائي إلا بعد معرفتهم لواقع حياة المبدع في مختلف وجوهها، ويعمل الكاتب على نقله في جملة سطور، فنقرأها ونتجاوزها ولكنها قائمة تتماشى مع العمل الروائي: "هناك همٌّ لا يشعر به الآخرون أحياناً، وهو همٌّ مركزيٌ يؤثر في نوع الشخصية وفي نوع الحدث اللذين تملأ بهما الرواية وهو: همٌّ البنية (البنية الروائية) كلما كتبت رواية شعرت أن هناك أشياءً أردت، منذ الطفولة ربما، أن أقولها.. فأقولها مرة.. ثم أعيد الكرة فأقولها بشكل ثالث.. وفي كل مرة أحاول تطويراً لنوع الشخصيات، ولنوع الحدث، فهي من ناحية متميزة وهي من ناحية أخرى متصلة بما سبقها، لكن في كل مرة يساورني بقوة الهم البنيوي" . (23)
فلقد تتجلى حياة الماضي في كل خطى الروائي بتناقضاتها وهمومها، لأن مرارة الحزن الذي يتجرعه باستمرار الأديب، تتناسل بكل دقائقها لتسيل مع الحبر فنتوجع لوجعه، ونفرح لفرحه. إنه يحيا مع شخوصه حياته المليئة بالنكبات والاهتزازات، لا ضوابط لها، إنما تنساق انسياقاًُ أرادته هي فيسمعها المبدع ويتشبع بها، ويحيلها حية لدنة تنطق بالألم الذي سايره منذ طفولته، وها نحن نراه ينطق أمام زوجة الخياط بما خبأته نفسه :"كلنا ساقطون .. في قاع البئر نحن ... " صار حزينا لم ينفعل ولكن صار حزيناً. " في قاع البئر نحن" .. وعزف .. ترك أنامله تداعب الأوتار قليلاً، قال لي: "هذا عجم عشيران" ومن قاع البئر تصاعدت أهات الاستغاثة .. الأجسام تتلوى، تختلج، تتسلق، تسقط، تتسلق تسارع الضرب، تباطأ، خف، خف، تلاشى .. ظلمة .. وجه كئيب .. ليل ... ثم انبثق ضوء .. حي على الصلاة الفجر، وقال لي : "هيا .. نصعد من البئر إلى الرقص "(24)
إن الكاتب يقهر الألم بجعل الشخوص يثورون، يخرجون عن المألوف، يتحدون أقدارهم فهو حينما نقل إلينا البطل الذي هو من عائلة ليبيرالية ورمى به وسط كوكبة من الرعاع على قول الوالد إنما أراد أن يجعله يشاهد المأساة، فتألم ويؤلم أهله، فتكون لذة الكاتب هي الانتصار لهم، للمقهورين، ومن تعبير عن حقد دفين نشأ مع الطفولة ونما مع شخص الكاتب، وهو يرفض أن يعيشها بالسماع والنقل، بل بالتجربة الحية والعميقة أيضا، إنه يؤكد بما لا يجعل مجالا للشك هذه التجربة وهذا التمازج الغريب مع رواياته، ويرفض اللون الذي لا ينقل إليه شيئا مما يزيده معرفة وإلهاما" ولعل فيما أفعله تعويضا عن حياتي الراكدة المملة في دمشق حيث أقضي وقتي في مكتبي بوزارة الثقافة أستقبل نوعا معينا من الأصدقاء والزوار لا يضيف إلى معلوماتي عن الحياة شيئا ذا قيمة، لأن المثقفين الذين ألقاهم لا تجارب لهم، أو لهم تجارب ميدانية قليلة، فهم يراوحون بين المقهى والبيت، وتبقى حياة الناس عالما موصدا عليهم ويبقى المجتمع الدمشقي مغلقا على الغرباء ليس من السهل أن يخترقه إنسان ليس من أبنائه، وهذا هو السبب في أن كتاب البرجوازية الصغيرة ذوي المنشأ الريفي يكتبون قصصا وروايات تفتقر إلى حلاوة البيئة، إلى النكهة الشعبية، إلى دسامة الحياة الشامية الأصيلة، وأغلبهم يتخيل هذه الحياة تخيلا لا أثر فيه للمعايشة الواقعية"(25). إنه يؤكد حضور ذاته في العمل من خلال معايشته للواقع، والواقع مرصود يظل مخبوءا في الذاكرة، محفورا أبدا، مستمرا جارفا، ينقل لا سيما للمبدعين جميع الأوجه، وتكون الشخصية الرئيسية هي الصورة الأصل لطموحات الأديب وآلامه، وتكون بذلك لسان حاله تنطق بما يعتلج في ذاته وتخترق عوالم الأفراح والأحزان، إنها حاضرة ولا مجال لإخفائها "إن الذاتية تعرف انطلاقتها التعبيرية فعلا حيث تستحوذ الشخصية الرئيسية على التعبير ويحظى موقعها الخاص بالمنظور السردي المعتمد، وتشكل أفكارها مجالاً قصصياً موازيا لمتابعة الحدث، فيما يسمى"تيار الوعي"(26)
تظهر وأنت تقتفي أثر الرواية ملامح العقلانية التي تعمل على إظهار فعل العقل ودفعه إلى الرجحان، فالذاتية في مراحلها الأولى معبرة عن صراع نفسي عميق لاشك ولكن العقلانية التي تلتها ووجهت هذا الصراع نحو أفق فكري واجتماعي مضى متحررة أكثر فأكثر من الوازع الكبتي، "متجرئاً أكثر فأكثر على القانون القمعي، دون أن يلغي ذلك الصراع نهائيا، ودون أن يعدل في بنية اللاوعي التي تنتجه"(27).
إن الكاتب يحاول فعلا أن يوجه أفكاره توجيها اجتماعيا حتى لا ينحصر في ذاته فينكفيء ويموت، إنه وهو ينقل جميع آماله وأحلامه على لسان بطله، يجعلنا نتدافع مع خطاه لنرى الهمّ وقد زال، وهاهو على لسان بطله يصور لنا جانبا اجتماعيا فيه إحساس بالراحة، بل بقهر الجبن، والتطلع إلى التحرر"وهذا الصيف عندما عدت إلى المدينة كانت حالة من الهياج تسودها، وكره شديد لفرنسا على كل وجه، وفي كل مكان إلا في البيوت التي هي قلاع كبتنا، وفي الكازينو حيث يلتقي المستشار بأرباب هذه البيوت يلعبون البريدج، ويرقصون (الطانغو).. كأن شيئا لا يحدث، وأمرا لن يطرأ، والوضع باق كما كان منذ الأبد، وكما سيستمر إلى الأبد.. ووالدي سكرتير المستشار، وصهري رئيس القلم والفلاحون من الصباح على الباب، والفقراء بأسمالهم وأحيائهم، يثيرون القرف، وحفيظة الأب، وهزء الصهر.. والعائلة تنظر إليهم باحتقار وتعتبرهم نوعا من الحشرات، يكفي أن ترفع قدما لتسحق عشرات منها(28) .
فحنا مينا يرتب لتعبيره، ناقلا أحاسيسه دفَّاقة لكنها ملفوفة بآيات الحزن والتحدي، فبيوتات القصور اهتزت بفعل تسرب العقل الحناميني حينما أسكن ألمه بطل القصة فأصبح المتكلم عنه، الذائد عن آلامه وطموحاته، وأصبحت ذاتيته مرتاحة لجميع ردود أفعاله، إنه ينتقم من أولئك الذين لم يسووهم بأنفسهم، فكانت البذرة التي أنتجها عامل ألم لكن ليس فيه، بل فيهم، أولئك الذين شردوا الفقراء، وأخذوا المهماز وضربوهم على قفاهم وعلى وجوههم، إن الذات المبدعة، لا شك، بإمكانها أن تبرز مدى تأثيرها في العمل الإبداعي، ولذا نتحدث عن تجاربها من خلال شخوص الرواية.
"إن الذات التي تمر بهول التجارب، لا تردد، ولا تخشى أن تتحدث عن تجاربها وكلما كانت معاناة الإنسان سحيقة الغور كانت قوته سحيقة الغور أيضا"(29).
لقد عاش تجارب شتى، وتقلب على نار الحزن في كثير من الأحيان، وكان لهذه التجارب أثرها العميق في بناء رواياته وتأسيس عمل شخوصه، ولا عجب إن رأينا البحر المديد بعنفوانه يصرخ أبدا في وجهه كي يسافر ويشق طرقه، وكان امتداده الأبدي الذي يستسقي منه، ويغامر فيه، فلم يضن عليه، بالتجارب، فأدركت نفسه على نعومتها الأولى ما للبحر من سحر، وما له من جمال، وما فيه من أسرار، فانكب عليه يغمره بالأوصاف، ويشد الحال نحوه كلما كبا به زمن المآسي، آه يقول ويصرخ:"غامروا صوب البحر، واجهوا الخطر"(30).

الصفحات