مع انتهاء إعداد هذا الكتاب، طردت الثورات الشعبية (الشعب يريد) في تونس ثم في مصر من السلطة رئيسين كان كثيرون يعتقدون أنهما غير قابلين لإطاحتهما قط.
أنت هنا
قراءة كتاب أحوال بلاد المتوسط في عصر العولمة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
العلاقات الأوروبية المتوسطية، أحجية الشراكات النيوليبرالية
المتوسط هو في الآن عينه مهد الحضارات الكبيرة وأرض الفتوحات والإمبراطوريات المتعاقبة وميدان المواجهات الكبرى بين الأديان التوحيدية. وهو يتّسم بضروب الروعة التي شهدها التاريخ، مثلما يتّسم بتمزّقاته. وفي مرحلة العولمة النيوليبرالية، يبقى المتوسط نقطة حيوية على خريطة العالم، خطاً للانقسام الاقتصادي بين الشمال والجنوب، وكذلك بين شرق القارة الأوروبية (البلقان) وغربها. إنّه طريق للمبادلات بين المحيط الأطلسي والشرقين الأوسط والأدنى، كما أنّه يفتح للبلدان التي تقع على شاطئ البحر الأسود منفذاً إلى المحيطات، لكنّه أصبح الدرب الذي ينتهي فيه، في معسكرات الاحتجاز، اليأسُ البشري في أفريقيا السوداء والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. على هذه الشطآن، يتواصل حقّ الشعوب في تقرير مصيرها والغايات الإمبريالية، كما تتواصل أقدم الحروب الساخنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
في التاريخ الطويل الذي يربط بين أوروبا وأفريقيا والشرق الأدنى، تشير القوى الغربية منذ القرن التاسع عشر إلى البحر الأبيض المتوسط بتعبير: بحرنا (murtsoN eraM)، على غرار تسمية الرومان له. بالنسبة إلى فرنسا والمملكة المتحدة وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة، أصبحت البلقان والمغرب والمشرق والشرق الأدنى مناطق استعمار أو إخضاع أو فرض ولاء.
بعد الحرب العالمية الثانية، أدى التضافر بين حركات التحرر والتيارات القومية العربية إلى تعديل المعطيات الجيوسياسية في المنطقة تعديلاً جذرياً، من دون أن تفقد القوى الأساسية، التي تابعت انتهاج سياسة استعمارية جديدة تحت ستار المساعدة والتعاون، تحكّمها بمجمل حوض المتوسط. واليوم، تستخدَم العولمة الاقتصادية والمالية في تعزيز هذا التحكّم عبر شبكة من الهيئات والشراكات التي تربط بلدان جنوب المتوسط وشرقه مع الاتحاد الأوروبي، الأداة السياسية للنيوليبرالية، وكذلك مع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذراع المسلحة للعالم الغربي.
أهداف كبيرة متتالية من دون وسائل
منذ ثمانينيات القرن العشرين، تشكّل تجمع للدول، يضم المغرب والجزائر وتونس ومصر من جانب، والبرتغال وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا ومالطا واليونان وتركيا من جانب آخر، أُطلِق عليه اسم: «المنتدى المتوسطي». تأسس هذا المنتدى على تأكيد أنّنا نعثر في أشكال الشراكة التالية كلّها على لازمة متكرّرة، أن نجعل من المتوسّط، «حيث ولدت الحضارات، منطقة سلام وأمن وتسامح وتفاهم وتنمية وازدهار وتفهّم ومبادلات بين شعوب المنطقة، في إطار ترويج حكم القانون والديمقراطية التعدّدية وحقوق الإنسان».
في المنتدى المتوسّطي، الذي يتمحور اليوم حول مسائل الهجرة ومكافحة الإرهاب، أضيفت في التسعينيات شراكات مع «البلدان المتوسطية الثالثة»[2]. تسري هذه الشراكات في المجالات المالية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية، وهي تضم اليوم مجمل البلدان المتشاطئة. أقيم بداية مكان لقاءات أُطلقت عليه تسمية «5+5» بين موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا والبرتغال وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا ومالطا. يحتفظ «5+5»، مثله في ذلك مثل المنتدى الأوروبي، بفائدته وهو يستخدَم مكاناً لعقد اللقاءات بين وزراء الداخلية.
أُنجِزت مرحلة جديدة في سياسة الشراكة في العام 1995 مع مسار برشلونة، الذي حدّد لنفسه هدف «خلق أكبر منطقة تبادل حرّ في العالم ببلوغ العام 2010».ولأوّل مرّة، انخرط الاتحاد الأوروبي، الذي أطلق المسار، انخراطاً مباشراً في المتوسط، وحدّد لنفسه هدف فرض القواعد النيوليبرالية المتمثّلة في اقتصاد السوق وضمّ مجمل حوض المتوسط إلى سياسة بسط نفوذ أوروبا إقليمياً[3]. من أجل تفضيل المصالح المالية والصناعية الخاصة بالبلدان الأعضاء في الاتحاد، يتم فتح منافذ للسلع والخدمات الأوروبية، وتسهيل إجراءات الاستثمارات والنفاذ إلى أسواق بلدان جنوبي المتوسط، والتزوّد بالمواد الأولية بأسعار زهيدة، من دون أن ننسى تلك المعطيات الأساسية، أي الغاز والنفط، وهو ما لا يتوانى عن التذكير به إعلان برشلونة الذي يشدّد على «الدور الأساسي لقطاع الطاقة في الشراكة الاقتصادية الأوروبية المتوسطية».
تشير الوقائع إلى أنّه لن يتم عقد اتفاقيات تبادل حرّ شاملة. فبسبب النزاعات التي تقسم المنطقة والتعارضات السياسية بين دول جنوب المتوسط والمصالح المتباينة بين القوى الأوروبية، لا يمكن عقد أي اتفاقية شاملة وسوف توقّع بلدان الاتحاد الأوروبي اتفاقيات منفصلة مع كلّ بلد من بلدان جنوبي المتوسّط على حدة. بالتالي، لم تصبح الشراكة الأوروبية المتوسطية أكبر منطقة تبادل حرّ في العالم، ولا حوّلت المنطقة اقتصادياً واجتماعياً.
هذه غاية مستحيلة إذا علمنا أنّ الاتحاد الأوروبي قد خصّص بين العامين 1995 و1999 لبرامج ADEM[4] مبلغ 6،4 مليار يورو، مجدولة على خمس سنوات، لإقامة «أكبر منطقة تبادل حرّ في العالم». وهذا المبلغ يعادل 13.5 دولاراً سنوياً لكلّ نسمة؛ وللمقارنة، تمنح الولايات المتحدة إسرائيل مساعدة تبلغ 1000 دولار سنوياً لكلّ نسمة. بين العامين 2000 و2006، جرى تقليص إضافيّ لمحفظة ADEM السنوية من 937 مليون يورو إلى 757 مليون يورو سنوياً.