أنت هنا

قراءة كتاب إضاءات نيتشوية - الجزء الثاني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
إضاءات نيتشوية - منسيات فاضحة

إضاءات نيتشوية - الجزء الثاني

كتاب "إضاءات نيتشوية - منسيات فاضحة ج 2"؛ كنت أفضّل أن أترك هذا الكتاب بدون مقدمة أو استهلال، لا لأكسر القاعدة المتبعة في تأليف الكتب، وليس لأني لم أجد داعياً أصلاً، التمهيد لما تجب قراءته رأساً، بدون مقدمات كتلك التي من شأنها أنْ تُفسد على القارىء متعة است

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

مقدمة

كنت أفضّل أن أترك هذا الكتاب بدون مقدمة أو استهلال، لا لأكسر القاعدة المتبعة في تأليف الكتب، وليس لأني لم أجد داعياً أصلاً، التمهيد لما تجب قراءته رأساً، بدون مقدمات كتلك التي من شأنها أنْ تُفسد على القارىء متعة استكشاف مجاهل نصٍّ مباغت، لا أحبّذ سرد قصّته، ولا أفهم الجدوى مِنْ اختصاره في ملمح سريع، أو صورة مبتسرة، لن تفي النصّ حقّه بالتأكيد. فكيف مع هذه الحال، إذا كان الكتاب كلّه عبّارة عن نصوص متنوّعة، لا رابط فيما بينها سوى الروح التي زفرت آلامها، عبر شذرات ساخطة، مشاكسة. رامت إلى التطهر مِنْ قهر غصّة مرّة، أصابت أفراداً مثلي، شردوا عن السرب، بعد أنْ ملّوا السير بهدى غرائز القطعان، فآثروا التفرّد في التمرّد على استكانة الجماعة المؤمنة بمعتقدات ومبادىء خاوية مِنْ أسباب التقديس والتبجيل عل نحو ما تكبّل به عقل اتباعها المعميون عن النظر الحرّ والجريء إلى ما في حقيقة الشيء... مِنْ شيء طبيعي وواقعي يجب ألّا يُقدّر بمثل ما تسامى عند العامة إلى مصاف ميتافيزيقي، استحال فيه الكلام الزمني، مقدسات لا تُمس، والطلاسم تعويذة شفاء وفرج.
ولأن نيتشه كان ضد كل أصناف المعيارية وتوابعها، استلهمنا حسّ النقد عنده وشياً، وتهكمّه الفلسفي غمزاً، واستعرنا منه مطرقة عقله الثقيلة على عقل البسطاء والسذّج، وذلك تلبية لنداء روحه، واستجابة لدعوته كي نستكمل هدم العمارات القيمية الشامخة إلى أعلى مِنْ ناطحات سحاب عصر العولمة.
لم يغدُ نيتشه نبياً، ولم يشأ أنْ يصير داعيته مبشّراً بأي دين، فقرر أن يقوّض بنيان الدين عن بكرة أبيه، بعد أنْ خلُص إلى أنه هو مَنْ يشكل علّة بذاتها أمام أي انطلاقة جديدة، أو بالأحرى، هو العقبة الأساس أمام قيامة إنسان قوي ممتلىء بعنفوان التحدي في حياة زاخرة بكل أنواع المرح والفرح. فالدين عند نيتشه أصل الداء، لأنّه يقترن بدعوات أخلاقية تردع الإنسان عن أهوائه، وتأمره بالتخلّي عن المغامرات المحفوفة بخطر السقوط عن قمم الجـبال، ويموت. فالأديان فرضت على الإنسان أن يعيش تحت... أن يقبع في القعر خوفاً على حياته، لتغدو حياته كلها بدون قيمة وبلا معنى...، هل من معنى لكائن يرتعد خوفاً مِنْ الإقدام على مغامرة النبش والتمرّد، والثورة والمشاكسة وكل ما يحقّق كينونة إنسان أفضل، هذا إن صعد إلى فوق ونظر مِنْ هناك إلى الناس واهتمامهم بقضايا، تغدو صغائر لا طعم لها قياساً إلى مذاق النجاح في الوصول إلى الأعالي، حيث يستوي فيها إنسانه جنباً إلى جنب مع آلهة لا يخافون ولا يأبهون طالما أنّهم خلّاقون.
لم يقصد نيتشه ديناً بعينه، ولا هو ضد الدين كدين، انما كان ضد مفاعيله النفسية والسلوكية على إنسان صار خائفاً خانعاً، لمشيئة قدر إلهي متحكم بمصير كائنات مستلبة خوفاً مِنْ ألّا يرضى الإله على جموع المؤمنين بواجب طاعته، الشاكرين على نعم رضاه صبحاً ومساءً.
والجدير ذكره، أنّ نيتشه لم يسع إلى وضع معيار صارم من أجل بناء منهج فلسفي معين، لكن تدميراته الممنهجة للعمارة الفلسفية كلّها أدّت إلى تداعي بنيانها المتصل فيما بين طبقاتها ومراحلها وروادها وأعلامها جميعاً بصلة خيط رفيع، جمعت أفلاطون بالمسيحية، وسقراط بالإرث الدوغمائي لكل الأديان التي نصّبت حاجزاً صلباً بين النفس والبدن ، والعقلانيين بالروحانيين.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ نيتشه هو مَنْ قضى، وبضربة معلّم، على فلسفات تنتمي، في رأيه، إلى مسطح مُتهالك خدم وظيفة الاجتماع البشري آلاف السنين بطريقة أدّت إلى خلق عاهات جسدية وآفات نفسية، وجب علاجها بالتخلّص مِنْ أسبابها؛ كما لو أنه لم يفعل الكثير، تجرأ فقط على قصّ خيط السبّحة فانفرط العقد وتبعثرت حبات الفلسفة المنعقدة بحبل دنس كريه، صنعه لهم سقراط، فاحتجزهم مدّة طويلة ضمن النطاق الذي أطلق فيه توجيهاً نحو أخلاق الفضيلة، فكان بنتيجتها أن استولد إنساناً ضعيفاً لا إرادة له، لأن عليه أنْ يذعن لإرادة ميتافيزيقية، ويتخاصم مع نفسه إرضاء لنفسه.
لم يفصح نيتشه عن مراده، ولعلّه كان منهمكاً ومنذ اللحظة الأولى، بتقويض دعائم الإرث العظيم للفلسفة، بما لم يتح له المجال لتقديم بديل، ولربما كان هو لا يؤمن أصلاً ببدائل ذات طبيعة وظائفية، طالما أن إنسانه الأعلى قوي، فإذا بمستطاعه أنْ يواجه تحديات عريه في عالم جديد، سوّاه نيتشه بالأرض، فخلا بعدها مِن المُسبقات الدينية والمحرّمات الأخلاقية التي كانت قد تسبّبت بانفصامه الدهري، بما أدى إلى ولادة إنسان جديد ظهر مع أركيولوجيا ميشال فوكو. وغراماتولوجيا جاك دريدا، وهيرمينوتيكا بول ريكور. ذلك أن الكلام عن الفلسفة ما قبل نيتشه غير الكلام عمّا بعدها... لاسيما وأنه دمغ القرن العشرين بكل أسباب الانقلاب الجذري في النظر إلى الوقائع، سمّاه البعض تشظياً، تيهاً وتبعثراً، لأنه لا يريد أنْ يُصدق طبيعة وجوده في عالم، لا حقيقة ثابتة فيه، ولا غاية ميتافيزيقية لحركته، ولا سرّ إلهي يحكمه؛ فهذه كلها إلهاءات مِنْ شأنها أن تخفّف عن كاهل البشر منغّصاتهم، وتريحهم مِنْ همّ الاعتراف بنقصانهم وانطفائهم في ومضة خاطفة، كما لو كانوا غير موجودين.

الصفحات