أنت هنا

قراءة كتاب 700 يوم في بغداد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
700 يوم في بغداد

700 يوم في بغداد

هذا الكتاب هو محاولة متواضعة لجمع تجارب امرأة عايشت الحرب في بغداد في وقت كانت فيه المدينة مستباحة للعنف والحرب؛ والموت يحصد مئة ضحية في اليوم الواحد.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

وساد صمت مفاجىء بين المسافرين كأن طيراً حطّ على رؤوسهم.‬ عند اقترابنا من الطائرة فوجئنا أن محركاتها كانت لا تزال تهدر زعيقاً ودخاناً أسود. دخلت الطائرة وصوت المحركات لا يزال ينخر في رأسي وحرارة جسدي ترتفع. ثم بدأ العرق البارد يتصبب مني وكأن خرطوم مياه رش مخزونه عليّ من رأسي حتى أخمص قدميّ. تهالكت بنفسي فوق أحد المقاعد المصنوعة من حبال المطاط المشبّك وظهري صوب هيكل الطائرة في مواجهة الركاب الآخرين.
‬ عند إغلاق الباب الخلفي؛ أطبقت الظلمة على صالون الطائرة ؛ إذ لم يكن هناك من نوافذ باستثناء فتحتين ضيقتين حجب النور المنبعث منهما جنديان من سلاح الجو الأميركي وقفا قبالتهما وعيونهما مصوّبة كالرماح إلى الأسفل لرصد كل حركة مشبوهة على الأرض. ثم اقترب منا جندي مدجّج بالسلاح وطلب من الركاب إغلاق هواتفهم الخلوية وقدم إليهم سدادات للأذن وأكياس التقيء الورقية شارحاً أن انحدار الطائرة في مطار بغداد سيكون عمودياً وسريعاً؛ وقد يحتاج معظم الركاب إلى هذه الأكياس.‬‬
وأصاب الجندي في تقديره. فبعد رحلة دامت ساعتين ونصف الساعة كانت غالبية الأكياس قد امتلأت قيئاً وفاضت!‫ ‬‬
عندما هبطت طائرتنا في مطار بغداد الدولي كان الليل قد أطبق على المدينة. الجو جاف وساخن وأنوار المصابيح الفاقعة الكاشفة لبعض أجزاء المطار تعمي البصر؛ فيما أصوات خافتة كالأنين تتأرجح في الهواء. قطعنا المدرج سيراً على الأقدام نحو باحة الوصول لتطالعنا أفواج من الجنود الأميركيين؛ بالمئات…بالآلاف… بعشرات الآلاف مدججين بالسلاح. بعضهم يهرول شمالاً ويميناً سعياً لإتمام عمل أو خدمة والبعض الآخر افترش الأرض تعباً بانتظار الطائرة التي تحملهم إلى مهمة جديدة أو إلى خارج البلاد للاستجمام.
أصابتني الدهشة لهذا الوجود العسكري الكثيف؛ وسمعت دايف يهمس مبتسماً بسخرية:‬‬
‫‬ ـ من قال إن هذا احتلال؟‬‬
قصدنا مكتب التسجيل حيث يتجمهر الركاب عادة بانتظار الباص الذي سيقلهم إلى وسط بغداد. وهذه الرحلات لم تكن لتبدأ إلا بعد منتصف الليل؛ عند سريان حظر التجوال؛ وبعد أن تكون المدينة قد غرقت في الظلمة والسكون.‬
لكن الأخبار هذه الليلة لم تكن مشجّعة. فغيوم الرمل التي تتكثف شيئاً فشيئاً في الجو تعيق حركة المروحية المواكبة للباص. وطلبت إلينا عاملة المكتب العودة خلال ساعتين لعل جديداً ما يطرأ. تهالكت خائرة القوى على مقعد جلدي عريض علّني أستطيع أن أغفو للحظة. لكن ملائكة النوم بقيت على مسافة مني. فأغمضت عينيّ أستمع إلى محطة سي.إن.إن.
‫‬‬وصدر قرار مكتب التسجيل ليؤكد استحالة العبور إلى القاطع الآخر من المدينة تلك الليلة؛ وأحيل الركاب إلى الخيم العسكرية المنصوبة في محيط المطار للخلود إلى الراحة. زعيق مولدات الكهرباء العملاقة في الخارج لم يخفت طوال الليل؛ أما في الداخل فكان شخير النائمين كوخز الإبر في أذنيّ. وتسللت داخل كيس النوم الذي كنت أحمله معي ‫‬‬وسحبت السحاب إلى أعلى رأسي مستسلمة لنوم عميق.‫‬‬
في الصباح؛ مشيت ببطء صوب الكافيتريا لتناول الفطور. كانت عيناي تلتقطان المشهد الممتد أمامي وكأنه اقتطع من فيلم هوليوودي تاريخي.‬ رمال الصحراء لوّنت الهواء والسماء بالأصفر والبرتقالي. والشمس كرة نار تحوّل كل شيء إلى حصى. عشرات آلاف الخيم العسكرية انتشرت بانتظام في المساحات الشاسعة المفتوحة. عند أبوابها يقف جنود أميركيون وهم مدججون بسلاح أوتوماتيكي أسود؛ وزنار من الذخيرة مربوط بين الكتف والورك؛ ومسدس بين الورك والفخذ؛ وخنجر بين الفخذ والكاحل. كلهم كانوا يرتدون ستراً رملية اللون محشوة بلوحات معدنية تغطي القلب والرئتين؛ وخوذة من اللون نفسه. وكلهم كانوا يضعون نظارات شمسية سوداء اشتروها من محلات بيع التذكارات في المطار لتحميهم من الشمس الحادة ومن الرمال والشظايا الطائرة. كان مظهرهم الخارجي يوحي وكأنه تم استنساخهم على شاكلة رامبوـ بطل أفلام الأكشن الأميركي.‬
في الصالة العملاقة التي تحولت إلى مطعم انهمك الجنود بالتهام البيض والبايكون؛ وسلاحهم يفترش الأرض محولاً المكان إلى غابة من آلات الحرب والدمار. ورحت أقفز فوق البنادق الأوتوماتيكية في طريقي إلى البوفيه التي امتلأت بكميات من الطعام والشراب تكفي لسد جوع العالم بأسره.‬ قضيت اليوم الطويل بصحبة دايف وآخرين ننتظر هبوط الليل لرحلة الباص إلى بغداد. لعبنا الورق وروينا النكات وسخرنا بصوت خافت من اعتمادنا المذهل على الأميركيين.‫ ‬‬‬
‫‬ ـ نركب طائراتهم ونأكل طعامهم وننام في خيمهم وننتظر بصبر باصاتهم لنتوجه إلى مقرنا في المنطقة الخضراء. كيف يمكن أن ننتهج سياسة مستقلة عنهم عندما نكون بحاجة قصوى إلى خدماتهم؟ قلت متسائلة.‬ ‬‬
هز دايف رأسه إيجاباً. أما الآخرون فلم يهمسوا ببنت شفة.‬

الصفحات