هذا الكتاب هو محاولة متواضعة لجمع تجارب امرأة عايشت الحرب في بغداد في وقت كانت فيه المدينة مستباحة للعنف والحرب؛ والموت يحصد مئة ضحية في اليوم الواحد.
أنت هنا
قراءة كتاب 700 يوم في بغداد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
عقوبات... وسقوط
عاصفة رملية تضرب بغداد لليوم الثالث على التوالي؛ والرحلات الجوية من وإلى العاصمة العراقية معلقة. والطائرة التي كان من المفترض أن تأخذني إلى بغداد حطت برحالها في القاعدة العسكرية الأميركية في الكويت ـ قاعدة علي السالم.
كنت بصحبة الأميركي جون سميث الذي عمل سابقاً في برنامج الغذاء مقابل النفط وبدا متحمساً لوظيفته الجديدة في إطار مشاريع الإعمار والتنمية. لم يكن جون من مؤيدي الرئيس جورج بوش بل كان يعتبر غزو العراق خطأ استراتيجياً. كان يجيد بعض الكلمات العربية ويدخن النرجيلة ويتحدث بحرارة عن أصدقائه العراقيين وحسن ضيافتهم وإنسانيتهم وقدرتهم على التحمل والصبر في وجه ظلم الحياة وصعوباتها.
على مدى ثلاثة أيام كنا نستفيق في الثالثة فجراَ ونتوجه إلى قاعدة علي السالم التي تبعد مسافة ساعة عن العاصمة. نقدم جوازات سفرنا إلى الضابط الأميركي وننتظر حتى التاسعة صباحاً ليأتينا الخبر اليقين ومفاده أن الرحلة أُلغيت لرداءة الأحوال الجوية في بغداد.
ونعود إلى الفندق والنعاس يطبق على أجفاننا فننام حتى غياب الشمس. فقيظ الصيف الكويتي مزعج إلى حد لا يطاق، والمدينة مملة إلى حد لا يطاق. ترف ومظاهر ثراء ومطاعم ومقاه أميركية تكتسح الشوارع والأسواق بحيث يصعب الوقوع على الروح الكويتية.
من هنا بدأ سقوط العراق!
صحيح أن صدام حسين خسر حروبه جميعاً؛ وصحيح أيضاً أنه خلق بيئة مذهبية لوّثت فضاء المنطقة عندما نبش في قبور الصراع العربي ـ الفارسي وخاض ضد إيران حرب المليون شهيد. لكن سقوطه الفعلي بدأ عند اجتياح الكويت.
وخلفية هذا النزاع أن الكويتيين طالبوا باستعادة الإعانة الاقتصادية بقيمة 14 مليار دولار التي كانوا قد قدموها لصدام حسين خلال حربه ضد إيران بحجة أنها قرض وليست هبة. وتمنّع الرئيس العراقي عن تسوية الخلاف المالي مع الكويتيين بحجة أن حربه ضد إيران كانت بالنيابة عن العرب في مواجهة الخطر الإيراني وامتداداته الدينية في كل المنطقة العربية . وتحول النزاع إلى خصام شخصي بين حكام البلدين تخلله السباب والإهانات العلنية. وشنّ صدام هجومه على الكويت في آب،أغسطس 1990 بعدما حصل على ما كان يظنه موافقة ضمنية من الأميركيين.
ثم جاءت سلسلة العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق لتقصم ظهور المواطنين العراقيين وتشجع أساليب الفساد والغش التي اعتمدها صدام حسين والمقربون.
ورأى جون أنه من الناحية الأخلاقية لا فرق بين صدام حسين والولايات المتحدة.
ـ صدام أرد السيطرة على منابع النفط؛ كذلك جورج بوش. صدام كان يطمح لضم الكويت وإعلاء نفوذه؛ كذلك كان بوش. صدام نهب الكويت وأحرق آبار النفط؛ والغرب وافق على العقوبات التي أهلكت الشعب العراقي وتركت ملايين الأطفال يموتون جوعاً. العراق انسحب من الكويت بعد ستة أشهر؛ فيما احتلال الولايات المتحدة للعراق مستمر بعد سنة ونيف من الغزو. فما الفرق بربك بين ديكتاتور كصدام وقوة عظمى كالولايات المتحدة؟ تساءل جون في معرض تحليلنا للأوضاع التي آلت اليها العراق.
عندما وصلنا فجر اليوم الثالث إلى القاعدة العسكرية كان الانزعاج بادياً على وجوه الجميع باستثناء جون. أحكم إغلاق حقيبته الجلدية، ثم تناول حبة دواء وقال بهدوء:
ـ لا تقلقي. سنغادر اليوم إن شاء الله.
ـ وكيف لك أن تعرف؟ هل أخبرتك الملائكة بذلك؟
ـ لا طبعاً؛ قال مبتسماً. اتصلت بأصدقائي في بغداد وقالوا إن العاصفة قد هدأت.
وغادرنا أخيراً الكويت الساخنة لنحط في بغداد أكثر سخونة!
كانت الأمور لا تزال على حالها. التطور الجديد كان وصول مساعد السفير أشرف قاضي في إدارة الشؤون السياسية الذي قفز نحوي بحماسة المراهقين لحظة دخولي المكتب؛ مدّ يده صوبي وقدّم نفسه. لوهلة أُخذت بحماسته فلم أسمع الاسم.
ـ عفواً ؛ من تكون؟
ـ أدعى مايك فون شولنبرغ وأكون نائب السفير قاضي ويده اليمنى.