هذا الكتاب هو محاولة متواضعة لجمع تجارب امرأة عايشت الحرب في بغداد في وقت كانت فيه المدينة مستباحة للعنف والحرب؛ والموت يحصد مئة ضحية في اليوم الواحد.
أنت هنا
قراءة كتاب 700 يوم في بغداد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
في صبيحة يوم استوكهولمي بارد من شباط 2005 ؛ رنَّ هاتفي الجوال. كان واضحاً أن المكالمة خارجية فالخط يطقطق وصوت ذكوري عميق يسأل بالانكليزية إن كنت السيدة مقدسي؟
ـ نعم، أنا هي.
ثم تابع بالعربية قائلاً إنه يُدعى أيمن الصفدي وإنه الناطق باسم الأمم المتحدة في العراق. وسألني إن كنت أرغب في أن أعمل لبعثة الأمم المتحدة في المنطقة الخضراء في بغداد. لم أكن أعرف الكثير عن المنطقة الخضراء لكني شعرت بالحماسة تنبض في أوصالي. لم أسأل شيئاً؛ ولا حتى كيف وجد إسمي أو رقم هاتفي؛ بل أجبت باقتضاب بأني كلّي رغبة للعمل في بغداد. فالصحافية القديمة في داخلي شعرت أن المهمة تنطوي على شرف كبير، شرف الشهادة عن قرب على جزء مفصلي من تاريخ العراق المعاصر ورؤية انحلال نظام الظلم والاستبداد وقيام نظام جديد لم يكن قد تكوّن بعد!
لكن الصوت الذكوري المجهول انقطع! مرّ شهران وأنا أتأرجح بين اليأس والأمل. اعتقدت أني ضحية مقلب ثقيل الظل ورحت أبحث على الانترنت عن هوية أيمن؛ ووجدت أنه المدير التنفيذي لأكبر قنوات التلفزيون الأردني وأنه شخصية معروفة في الإعلام العربي، فارتاحت ظنوني.
وهكذا؛ وبعد انقضاء ثلاثة أشهر وصلتني رسالة التعيين من الأمم المتحدة في نيويورك. فانقلب القلق إلى فضول وحماسة. عندما وصلت إلى بغداد في أيار 2005 كان أيمن قد غادر منصبه وترك لي مسؤولية ضخمة في إدارة مكتب الإعلام.
فريق العمل الصغير الذي تتألف منه البعثة كان يقوم بعمل دؤوب على مدار الأسبوع. عند لقائي الأول بهم لم يهتم أحد بمن أنا ومن أين أتيت؛ بل كان على شفاههم سؤال وحيد: لماذا أتيت إلى بغداد؟ ولم أعرف أن أجيب بأكثر من أنني فضولية وأعشق المغامرات. وكانت الأمانة العامة في نيويورك قد حددت سقفاً لعدد العاملين في بغداد بحيث تسهل عملية الإجلاء عندما تستدعي الظروف. وكان الهجوم على مقر البعثة قبل عام ونيف والذي حصد عدداً كبيراً من الموظفين من بينهم رئيس البعثة آنذاك سيرجيو فييرا دي ميللو ـ الصديق المقرّب من كوفي أنان ـ لا يزال يؤرق بال الأمين العام.
ولدهشتي، فقد كان عدد العراقيين العاملين في البعثة لا يتجاوز عدد أصابع اليد.
العراقي الوحيد سرمد، كان سعيداً جداً بالعمل وحيداً في مكتب الإعلام. وبات فجأة تعيساً للغاية عندما علم أن مديراً جديداً انضم إلى المكتب. كان سرمد يرغب بالعمل وحيداً كما اعتاد؛ ويجد متعة في مساعدة الآخرين في أبحاثهم على الإنترنت. وعندما طلبت إليه أن يتوقف عن ذلك ويركّز على المهمات التي أسندتها إليه؛ انتفض غيظاً وهرول إلى الخارج احتجاجاً. رأيته وهو يتأفف مني على مسمع من الآخرين ويبحث عن وظيفة أخرى في قسم آخر. وعندما لم يجد سبيلاً عاد إلى مكتبه وقد عدّل شيئاً من لهجته.
كان سرمد بأعوامه الثمانية والعشرين من خيرة الشباب العراقي. قوي البنية، عريض الكتفين، طويل القامة كشجرة النخيل. أصيل. لا يهاب الموت.
ـ مدراء يأتون ويذهبون والمطلوب مني أن أرضي الجميع وأنفذ تعليماتهم؛ أليس كذلك؟ سألني بانفعال.
ـ أبداً. المطلوب فقط أن تتعاون معهم.
ـ ومن أكون إذن؟ وماذا أفعل هنا؟ وهل دوري أن أتعاون وأساند الأجانب الذين لا هم لهم إلا توزيع الأوامر؟
ـ المدراء الأجانب يأتون ويذهبون وأنت تبقى. أنت الاستمرارية في هذا المكان، وهذا أهم بكثير من كل ما أحاول ويحاول الآخرون تحقيقه.
للتو، اضمحلت نقمة سرمد كالثلج في ضوء الشمس وكأنه شعر بنفسه ممتلئاً، مزهواً بهذا الدورالجديد. شرحت له خططي لتنشيط عمل مكتب الإعلام، فازداد اعتداداً.
ـ هذا مخطط طموح؛ قال. ولكن ليس هناك إلا أنت وأنا ونحن لا نستطيع جر العربة وحدنا.
ـ سنفتح باب التوظيف أمام العراقيين الكفوئين ونوسع نشاطاتنا. أريد فقط أن تكون موضع ثقتي وأنا متأكدة أننا سننجح.
وصمت سرمد. وخلته في تلك اللحظة قد وعد نفسه بألا يخذلني أبداً. ومنذ ذلك الحين بات هذا الشاب البغدادي من أوفى الأصدقاء وأقربهم إلى قلبي. ربما ساهمت نشأتي البيروتية خلال الحرب الأهلية وإدراكي لمعاناة العراقيين في إرساء الثقة والتفاهم فيما بيننا.