أنت هنا

قراءة كتاب 700 يوم في بغداد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
700 يوم في بغداد

700 يوم في بغداد

هذا الكتاب هو محاولة متواضعة لجمع تجارب امرأة عايشت الحرب في بغداد في وقت كانت فيه المدينة مستباحة للعنف والحرب؛ والموت يحصد مئة ضحية في اليوم الواحد.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

رجل في الخمسين فارع القوام وسيم الوجه يضحك لأشياء تافهة كحذائه غير الأنيق أو شعره الخفيف الذي يكاد يكشف صلعته. ملابسه بسيطة من الطراز الذي يستهوي الشباب في أوروبا.‫‬‬
غير أن هذه الشخصية المازحة التي تفتقر إلى الوقار؛ لم تستهو لا العراقيين ولا العاملين الدوليين. فخلف هذا البرقع كان فون شولنبرغ يخفي وجهاً بشعاً غيوراً. والزملاء كانوا ينادونه همساً «بالشرير مايك».
وانهمكت في توظيف زملاء جدد. وكان أول المنضمين إلينا المترجم علي؛ ثم عصام؛ فالسكرتيرة الإدارية شروق. ولدهشتي، فقد ساد التفاهم بين الزملاء رغم أن السياسة العراقية كانت شغلهم الشاغل. كان يكفي أن أعلّق على تصريح أحد السياسيين حتى ينخرط الجميع في حديث سياسي لا يعلم إلا الله متى ينتهي! لم أرغب أن أعرف شيئاً عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية باعتبار أن ذلك لا يمت إلى الوظيفة بصلة؛ لكن آراءهم المختلفة حول التطورات السياسية كانت أوضح دليل.
علي كان شيعياً كإسمه. يدخن دون توقف ويبدي اهتماماً ملحوظاً بالنقاشات التاريخية. عصام كان شيعياً أيضاً ويسكن منطقة غالبية سكانها من الفلسطينيين السنّة. شروق كانت سنية قلباً وقالباً؛ أما سرمد فكان يتباهى بتعدد انتماءاته:‬ والده شيعي وأمه كردية وزوجته سنية.‫ ‬‬
‫ـ‬ أحمل في داخلي كل أطياف العراق. أنا الوطن الحقيقي، كان يحلو له أن يردد‫.‬ ‬‬‬‬
والاعتزاز بالنفس والهوية كانا ظاهرين على شروق أيضاً ولو بشيء من الانكسار. انفصلت عن زوجها قبل عشرين عاماً، وأمضت حياتها في إعالة وخدمة ولديها اللذين تخاف عليهما كما تخاف الدجاجة على صيصانها.‬
هي واحدة من أولئك الذين نجوا من الهجوم الذي تعرض له مقر الأمم المتحدة في بغداد قبل عام ونيف؛ ولا تزال تحمل ندوباً على خدها الأيمن‫‬ مما حسم الأمر لصالحها في حصولها على الوظيفة رغم تقدم مرشحين آخرين من أصحاب الكفاءة. فالمسؤولية الأخلاقية كانت تقتضي أن نعيد إليها الوظيفة التي كادت أن تموت بسببها.‬‬
لم يخطر ببالها يوماً أن تتزوج ثانية. ربما من أجل التفرغ لولديها؛ وربما لأنها لا تحب الرجال العراقيين لقسوة قلوبهم. وكانت تروي تعرضها للضرب والإهانة منذ أول يوم تلا شهر العسل أو ما درجت على تسميته «بأسبوع العسل».
كانت ترتدي العباءة السوداء التي تغطي جسدها من الرأس حتى الكاحل؛ وتضع غطاءً مناسباً على الرأس لا تلبث أن تنزعهما ما أن تصل إلى المكتب. وتروح تتمختر بين الأقسام المختلفة بملابسها الصارخة الألوان كما لو كانت ترغب في أن تنتقم من العباءة وكل الذين أرغموها على ارتدائها. تضع الكحل على عينيها الجميلتين بإتقان الفنان وتهوى تمشيط شعرها مرات عديدة خلال النهار؛ وتتذكر بحنين ذكريات طفولتها في مصايف لبنان.
ـ كان والدي يستأجر منزلاً للعائلة في الشوف وكنا نلعب في الطبيعة الخلّابة ونتمتع بالطقس الجميل.‫ كنا نعيش طويلاً في بحبوحة حتى جاءنا الأميركيون فخربوا علينا بهجة الحياة. اليوم نحن فقراء بائسون لا يكفينا الراتب حتى للضروريات.
كانت شروق والزملاء الآخرون يرون أن عشر سنوات من العقوبات وانقطاع العلاقات الديبلوماسية والتبادل الاقتصادي مع العالم قد حولت مجتمعاً متطوراً كالعراق إلى مجتمع فقير عاجز عن اللحاق بالركب. وأدى برنامج الأمم المتحدة «النفط مقابل الغذاء» إلى رواج الفساد والصفقات السرية والأموال المتبادلة تحت الطاولة. والمداخيل لم تكن تكفي لشراء الطعام أو الدواء. فبات المواطنون يعتمدون على البطاقة التموينية للحصول على المواد الغذائية؛ ولم يعد بإمكانهم شراء الدواء لأولادهم المصابين بالسرطان. ووقف الأطباء عاجزين عن إنقاذ الأطفال من الموت.‬
‫ـ‬ العراق بلد غني يملك أكبر ثاني احتياطي من النفط في العالم؛ قال عصام فخوراً؛ لكن عقوبات الأمم المتحدة جعلت منا شعباً فقيراً يستعطي الغذاء ببطاقات إعاشة؛ وهذا لا يليق بأمة عظيمة كالعراق‫.‬ ‬‬‬‬
‫ـ‬ لم يعد من وجود للطبقة الوسطى؛ أضافت شروق. وبات الغذاء يأكل كل رواتب الناس ومدخراتهم‫.‬‬‬‬‬
‫ـ‬ والتعليم الذي كان مجانياً لجميع العرب أصبح مكلفاً إلى درجة أنه لم يعد بالإمكان إرسال أولادنا إلى المدرسة. عدد الطلاب في تراجع بشكل حاد. اليوم نتحدث عن جيل عراقي أمّي بالكامل. وهذا له نتائج مدمّرة على مجتمعنا للسنوات العشرين المقبلة، قال عصام.‬ ‬‬
‫ـ‬ مهما فعلت الأمم المتحدة لأجلنا اليوم؛ فنحن لا ننسى تخليها عنا في فترة العقوبات؛ قال سرمد‫. ‬‬‬‬
ورغم الوضع الأمني المتردي في بغداد كان الزملاء يدأبون على الحضور إلى المكتب في الوقت المحدد كل صباح. ‬ يقفون في طوابير حواجز التفتيش؛ يقدمون بطاقات هويتهم ويرسلون أغراضهم عبر جهاز اللايزر؛ ويستسلمون لتفتيش جسدي دقيق قبل السماح لهم بدخول المنطقة الخضراء المحصنة ضد الإرهابيين. ولم تكن هذه الصباحات تمر دوماً على خير! فقد حدث مراراً أن انفجرت عبوات ناسفة فيما كانوا ينتظرون دورهم على هذه الحواجز؛ ورأوا بأم العين القتلى من الصغار والكبار يسقطون وهم في طريقهم إلى العمل أو المدرسة.

الصفحات