"اليسار اللبناني وتجربة الحرب"؛ هذا الكتاب جزء من مشروع لدراسة تجربة الحرب في لبنان بوصفها حدثاً اجتماعياً شاملاً لا يقتصر على الأحداث السياسية العامة. الأحزاب بفكرها وتكوينها وممارستها الداخلية وجه من وجوه الحرب.
أنت هنا
قراءة كتاب اليسار اللبناني وتجربة الحرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وجاءت القمة العربية تمتحن سياسة لبنان الخارجية فهبت معارضة مسيحية ضد اشتراك لبنان بأي شكل من أشكال الدفاع العربي المشترك بما في ذلك اعتباره دولة مساندة لا دولة مواجهة. دارت السياسة الوطنية آنذاك على خيارين: استكمال وتطوير النهج الشهابي السابق في السياسة الخارجية والداخلية، أو الارتداد عليه. وكانت انتخابات 1968 دلالة على انكفاء الشهابية وقد تراجعت قواها الداخلية وانحسرت الناصرية بعد هزيمة 1967.
وعلى وقع مشكلات اجتماعية ضاغطة جاءت ثمرة الفورة الاقتصادية، والتوسع الرأسمالي وهيمنة الكتلة المالية المصرفية التجارية، وانهيار اقتصاد الارياف الحرفي والزراعي، والاستقطاب المديني وضيق أسواق العمل، وعلى وقع مشكلات إقليمية أنذرت بتبديل موازين القوى، تحركت القوى التقليدية المتضررة للانقلاب على المشروع الشهابي وعلى إرث الناصرية، وعادت المسيحية السياسية إلى ثقافة «الانعزال» وسعت إلى الرهان مجدداً على الغرب. وكتب منح الصلح (1966) عن «الانعزالية الجديدة».
كان فشل الوحدة المصرية السورية (1961 ـ 1958) بمثابة ضربة قاسية لهيبة جمال عبد الناصر ولفكرة القومية العربية. وحاول الانفصاليون السوريون الضغط على السياسة اللبنانية وهم يملكون التأثير الجغرافي المباشر وقاموا بنشاط سياسي وأمني ضد سياسة الرئيس شهاب. لكن عبد الناصر استدرك الخسارة باعتماد سياسة اجتماعية أكثر جذرية وعزز التحولات الاجتماعية والتنموية، وانشأ اقتصاداً ممركزاً، وعزز علاقاته بالمعسكر الاشتراكي تمويلاً وتسليحاً وخبرات ونظَّم «الاتحاد الاشتراكي العربي» وضم إليه الشيوعيين، واعاد خلط الأوراق في المنطقة واستجاب بتحفظ لمشاريع وحدوية لم تصمد مع سوريا والعراق، لكنه تورط في حرب اليمن، كما انشغل بالأزمات العربية (صراع القوميين والشيوعيين العراقيين) ونزاعات الاجنحة في النظام السوري، والمواجهة مع دول الخليج العربي.
كسرت سياسة عبد الناصر حاجز الحذر من الأفكار الاشتراكية والعداء للشيوعية في بيئة الحركات الوطنية والقومية. اجتاحت المنطقة موجة من النقاشات والحوارات حول سبل تجذير المواجهة القومية مع الاستعمار والصهيونية وقد نجحت ثورة الجزائر واليمن في إعطاء جرعة قوية من المعنويات لحركة التحرّر العربية.
بدأ الدعم السوفياتي لحركة التحرر العربية ولا سيما مع إنجاز السدّ العالي وزيارة خروتشوف لمصر (1964)، يؤتي ثماره تعاطفاً مع المعسكر الاشتراكي، واعطت ثورة الصين وفيتنام وكوبا نموذجاً أكثر قرباً من مفاهيم القوميين العرب. وأمام المشكلات التنموية والسياسية بدأت الأحزاب القومية جدلاً وصراعاً بين تيارات فكرية جديدة.
منذ استلام البعث السلطة في سوريا 8 شباط 1963 و1966 في العراق، طرأت على جدول الاعمال مهمة إعطاء الفكر القومي مضمونه الاجتماعي، فلا يكون مقصوراً على شعارات وحدوية (فشلت أصلاً) وتعطيه شرعية شعبية من مصادر مختلفة. وقد صار الحديث عن الرجعيين في الداخل وارتباطهم بالاستعمار مقدمة للحديث عن الطبقات والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير.
وجدت «حركة القوميين العرب» (تأسست 1950) في التحولات الناصرية بدايةً أفقها الطبيعي العروبي والتنموي فزادت التصاقاً بها والتحاقاً بخياراتها. لكن مرحلة الوفاق هذه بدأت تتغيّر منذ 1964 عبر مقالات نقدية لتلك التجربة. أما حزب البعث السوري الذي انحل مع الوحدة (1961 ـ 1958) فقد عاد وتشكل ضد تجربة الانفصال وطرح على نفسه مهمة مواكبة المناخ اليساري الجديد؛ وفي مؤتمره (1966) استعرض الحزب أوراقاً سياسية تقدم بها التيار اليساري (على صالح السعدي، ياسين الحافظ...) وفشل في إقرارها كخط استراتيجي، فخرج منه عدد من الفاعلين ليبحثوا عن خيارات حزبية أخرى. في لبنان حيث للحزب منظمة قوية واسعة نشأت عدة تيارات إحداها مستقلة وأخرى ارتبطت لاحقاً بما يعرف «بعث العراق» وجماعة ارتبطت بسوريا وعرفت بـ «بعث الراية، مجلة الحزب». وآخرون اتجهوا نحو الفكر الماركسي.
لم تكن تجربة الأحزاب الشيوعية العربية جاذبة لشباب اليسار الجديد، كما لم تكن موضع إعجاب وترحيب في أوساط النخب والجمهور.
لقد ارتكبت المؤسسات الحزبية الشيوعية الكثير من الاخطاء التي جعلتها في حال من الانعزال عن التيارات الوطنية والقومية. شكل موقف الاتحاد السوفياتي المؤيد لتقسيم فلسطين (1947) عنصراً مهماً في الرأي من الأحزاب الشيوعية العربية التي انصاعت على مضض وتبعياً للموقف السوفياتي. وشكل صراع القوميين والشيوعيين على السلطة في العراق سبباً آخر ومعارضتهم للناصرية وللفكر القومي. وكان حل الحزب الشيوعي المصري في بوتقة الاتحاد الاشتراكي العربي بادرة ضعف لهوية الشيوعيين ومصدر انقسامات بينهم. والتحق الحزب الشيوعي السوري بزعامة خالد بكداش بسياسة البعث واتخذ نهجاً إصلاحياً منضبطاً على التوجيه السوفياتي. وكان الحزب الشيوعي اللبناني (الذي استقل عن السوري عام 1964) قد مارس سياسة إصلاحية تبعية لقطبين تقليديين هما رشيد كرامي وكمال جنبلاط.
واتسمت مواقف الحزب بطابع إصلاحي نقابي بيروقراطي وغير فعّال في المسألة السياسية وخاطئ في المسألة القومية، من فلسطين إلى موضوع الوحدة.
لكن الفكر اليساري العالمي كان يقدم نموذجاً آخر حتى عن التجربة النظامية السوفياتية التي انكشفت مشكلاتها الداخلية والخارجية بدءاً من أواسط الخمسينات (البيروقراطية الداخلية واحتلال المجر 1956) ونقد الستالينية ودعم الانظمة القومية وسياسة التعايش السلمي.
وكانت الستينيات مرحلة نضال استقلالي واسع في العالم الثالث (آسيا، افريقيا، أميركا اللاتينية) ومرحلة صعود للأفكار اليسارية في أوروبا حيث اتخذت الأحزاب الشيوعية الأوروبية اتجاهات مستقلة (ايطاليا، فرنسا)، واتسع نفوذ التيار «التروتسكي» حتى في أميركا في مواجهة الثقافة المحافظة والرجعية التي أطلقها «المكارثيون» واتساع حركات المطالبة بإلغاء التمييز ضد السود (مارتن لوثر كنج) والمعارضة الشبابية لحرب فيتنام.
كانت هناك ثقافة عالمية جديدة منتشرة وصاعدة وجاذبة صارت تعرف بثقافة «اليسار الجديد» (موريس كرانستون) وقد جسدتها رمزياً حركة «تشي غيفارا» أو «اليسار الايطالي الجديد، المانيفستو» أو أفكار روجيه غارودي الناقدة للنموذج السوفياتي أو هربارت ماركوز التجديدية وفلسفة الوجودية «جان بول سارتر»، أو أفكار فرانز فانون وتجربته في الجزائر «معذبو الارض». الخ...
وكانت الثورة الصينية تلهم المثقفين بتجديد نفسها من خلال ما سمّي «الثورة الثقافية»، وثنائي هوشي منه والجنرال جياب يقدمان نموذجاً نظرياً ناجحاً لما يسمّى «الحرب الشعبية» أو «حرب التحرير الوطنية».
ورغم الحرب الباردة (الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، حلف وارسو وحلف الناتو) الذي عرف أزمة نشر الصواريخ السوفياتية في كوبا (1961) أو محاولة فصل المجر وبولونيا وتشيكوسوفاكيا (1968) عن الحلف الروسي والتدخل الروسي المباشر للاحتفاظ بهذه الدول، والحروب بالواسطة في دول العالم الثالث، نشأت كتلة (عدم الانحياز 1955 بقيادة الهند، يوغسلافيا، اندونيسيا، مصر) وقدمت نموذجاً للاستقلال عن المعسكرين. ولعبت هذه الكتلة دوراً مهماً في حوار الشرق والغرب وساعدت في تمايز بعض الدول الأوروبية عن الولايات المتحدة (فرنسا ديغول مثلاً).