أنت هنا

قراءة كتاب اليسار اللبناني وتجربة الحرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
اليسار اللبناني وتجربة الحرب

اليسار اللبناني وتجربة الحرب

"اليسار اللبناني وتجربة الحرب"؛ هذا الكتاب جزء من مشروع لدراسة تجربة الحرب في لبنان بوصفها حدثاً اجتماعياً شاملاً لا يقتصر على الأحداث السياسية العامة. الأحزاب بفكرها وتكوينها وممارستها الداخلية وجه من وجوه الحرب.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9

الصاعق الفلسطيني

فرض العدوان الإسرائيلي على مطار بيروت ليل 28 كانون الأول 1968 جدول أعمال مختلفاً على لبنان. لم يشارك لبنان في حرب حزيران 1967 مؤثراً الحياد والاحتماء بعلاقاته وصداقاته الدولية، أي بكونه صديقاً للغرب على ما يشاع في رعاية الغرب للطابع المسيحي الخاص بلبنان. كان ذلك مصدر مقولة المسيحية السياسية عن «قوة لبنان في ضعفه». لكن إسرائيل التي لم تلتزم هذا الحياد اللبناني ووضعته في المدى الحيوي لأمنها ومطامعها مارست باستمرار ترهيب اللبنانيين لا سيمّا الجنوبيين. فقد اجتازت الحدود اللبنانية مراراً وتكراراً ولعبت دور البوليس المتحفّز لقمع أي محاولة لمقاومة سطوتها منذ عام 1948. استشرفت النخب اللبنانية لا سيما المسيحية منها الخطر الصهيوني قبل أن يصبح واقعاً مادياً مجسداً في كيان دولة إسرائيل. ولطالما ردد اللبنانيون الخاصة والعامة أن لإسرائيل مطامع في مياه لبنان وأرضه. ولم ينسحب اللبنانيون من معركة المواجهة مع المشروع الصهيوني إلاّ في ظل التعريب الرسمي الذي فرض على لبنان الانضباط في الخطة العربية الشاملة منذ تشكيل جيش الانقاذ وهزيمة 1948. شارك لبنان من أطياف مختلفة في مقاومة الصهاينة في ظل الانتداب البريطاني وثورة القسام (1936) وساهم في الحرب العربية عام 1947 عبر جيش الانقاذ بزعامة «فوزي القاوقجي» ومعركة المالكية بقوات الجيش اللبناني.
أقحمت إسرائيل لبنان في دائرة الصراع العربي الإسرائيلي متذرعة بنشاط الفدائيين الذين تسللوا من المخيمات عبر الحدود لاطلاق بعض رشقات الكاتيوشا.
كانت السلطات اللبنانية تمارس ضبطاً غير محدود للمخيمات والنشاطات الفلسطينية ومارست أشكال القمع والاذلال، وقضى تحت التعذيب ناشطون فلسطينيون في السجون اللبنانية. خرج الفلسطينيون احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي وعلى سياسات تقييد النشاط الفلسطيني. وكانوا يتخذون من مناسبة تشييع شهدائهم سبباً للتظاهر، أو للمواكب الاستعراضية التي تركت آثاراً سلبية على جمهور بعض الفئات اللبنانية، وعدّها بعض القوى السياسية تحدياً لمشاعر اللبنانيين وتعدياً على حرياتهم وعلى سيادة الدولة (نقولا نصر، حرب لبنان ومداها). وقعت عدّة حوادث تصادم بين قطاعات ومواقع من الجيش في الجنوب مع بعض المجموعات الفدائية ثم وقعت احتكاكات بين الفلسطينيين والاهالي في أكثر من منطقة بما في ذلك إطلاق النار على المواكب الفلسطينية خلال عام 1968 ومن بينها حادثة الكحالة الشهيرة، يوم كان كمال جنبلاط وزيراً للداخلية وعلق: «أرادوا إحراقنا فأنقذنا لبنان من الحريق». انبرى اليسار في الدفاع عن حق الفلسطينيين في العمل بحرية على الارض اللبنانية وتعاون مع الجمهور الفلسطيني في حركات الاحتجاج والتظاهر. وتصدر الاسلام السياسي هذه الموجة ليطرح من خلالها أزمة الحكم والشراكة الطائفية ونشأت أزمة حكومية عام 1968 بعد ضربة المطار آخر العام امتدت سبعة أشهر ساهمت في تأجيج الانقسام السياسي الطائفي. وما أن حصلت تظاهرة 24 ـ 23 نيسان 1969 في ساحة البربير احتجاجاً على تطويق الجيش جنوباً لمجموعات فدائية حتى تصدت السلطة بقمع عنيف للمتظاهرين فوقع تسعة شهداء وأكثر من أربعين جريحاً، وطاردت السلطة نخبة من المتظاهرين بالملاحقة القضائية شملت 76 شخصاً معظهم من العناصر الحزبية اليسارية ومن طلاب الجامعات.
كانت تلك الحادثة فاتحة مرحلة جديدة من السياسة اللبنانية فرضت العنوان الفلسطيني شاغلاً أساسياً. وحول هذا الوجود والدور تألبت القوى والمواقف وانفتحت الساحة على مداخلات عربية أفضت إلى توقيع اتفاقية القاهرة لتنظيم هذا الوجود وهذا الدور. كان تعريب أزمة 1969 مقدمة لانشطار نفسي وسياسي استحضر في البيئة المسيحية الخوف من التعريب والأسلمة. تحول اتفاق القاهرة إلى قضية خلافية وعنواناً ظل يتردد حتى منتصف الثمانينيات. خالط الموقف المسيحي أكثر من عنصر وحافز. ففي السابع من آب عام 1967 في أعقاب هزيمة الخامس من حزيران أدلى البطريرك الماروني بموقف سياسي حذَّر فيه من ضياع هوية لبنان أمام موجة العروبة وندد بالتيارات التي تريد ربط المصير اللبناني بالمصير العربي. وفي هذا الوقت بدأت حركة سياسية مسيحية تسعى إلى تكوين حلف سياسي استهدف تصفية إرث الشهابية في سياستها العربية والداخلية. وتشكل الحلف الثلاثي (كميل شمعون بيار الجميل ريمون اده) ليخوض انتخابات 1968 النيابية مكتسحاً معظم دوائر جبل لبنان المسيحي تحت شعارات مواجهة العروبة والصهيونية والشيوعية وفي سبيل حرية وسيادة وحياد لبنان. (فؤاد كرم، الحلف الثلاثي)
أسس هذا الحلف لإنهاء العهد الشهابي الثاني ممثلاً بالرئيس شارل حلول، واستطاع إيصال المرشح عن التكتل الوسط الرئيس سليمان فرنجية معيداً وضع اليد على سياسة الدولة الرسمية التي اعتبرها متقاعسة عن أداء دورها من قبل. انضوى اليسار التقليدي (الحزب الشيوعي اللبناني والحزب التقدمي الاشتراكي) في خطة الرهان على كبح التطرف اليميني وعلى إنقاذ النظام من أزمة المواجهة مع الضغوط العربية من جهة ومع الحركة الشعبية الداخلية من جهة ثانية. لكن أفق هذا المشروع كان مقفلاً أمام تشدد اليمين المسيحي وهو يرفع شعار السيادة والأمن قبل الاصلاح ويدعو إلى حسم المواجهة مع الفلسطينيين.
في 23 نيسان 1969 ظهر واقع جديد تمثل في استقطاب يساري آخر يسيطر على جمهور واسع من الشباب اللبناني الذي هب للدفاع عن حرية العمل الفدائي وانطلق يطرح فكرة إنشاء «اللجان الشعبية» في المدن والاحياء والارياف دفاعاً عن هذا الوجود باعتباره نقضاً للنظام الفاشل والعاجز عن بناء نموذج وطني وتقدمي.
في ساحة 23 نيسان (البربير) انطلقت حركة لبنانية من روافد كثيرة لكن جمهورها الغالب هم الشباب من جامعات لبنان الذين ارادوا التغيير. يصعب القول كم كانت نسبة الملتزمين في الأحزاب آنذاك من بين هذه الآلاف اللبنانية والفلسطينية كذلك. لكن هذا التمرين الثوري كان حاسماً في كسر هيبة السلطة بما كان له من تداعيات على الطبقة السياسية وتماسك النظام ومن تردّدات في الأوساط الشعبية. ما كان قبل ذلك أحلام مثقفين وطموحات شباب في تأسيس نمط جديد من العمل السياسي يضرب التقليد الخشن للزعامات وللسلالات المتوارثة وللطبقة الثرية صار ممكناً حين اندفع جمهور عريض إلى الشارع.
في اليوم الثاني كان التفكير في إنشاء حركة سياسية من نوع جديد. حركة تسيطر على المجال الشعبي وتقوده، تنظمه وتسير به إلى حيث يكون جسماً فاعلاً ضد النظام السياسي. ما كان فروقاً ثقافية صغيرة ترسم حدود المجموعات المتجانسة على مذاهبها وطرقها الخاصة صار سهلاً تجاوزها إلى الاجتماع على الموضوع الأكبر الذي صار يسبق تطلع هذه المجموعات. لاحت فكرة الثورة وسيطر شبحها على الخيال حيث كانت الطبقة السياسية في حال من التفكك والتناقض والتردد والضعف وانعدام الهيبة والسقوط في السياسات المحلية ومنافعها الصغيرة (أزمة تشكيل الحكومة لسبعة اشهر). في تلك العشايا التي تلتئم فيها زمر الشبيبة لتبحث في تجربة اليوم أمر الغد كان الشعار المعبّر: «مين بيقدر يغتالك.. يا ثورة مين... لو نظمتِ عمّالك والفلاحين». (هتاف أطلقه عصام العبد الله) كانت الثورة سابقة على التنظيم وكان على التنظيم أن يحمي الثورة من الاغتيال. دقت ساعة التنظيم بعد أن دقت ساعة العمل.

الصفحات