أنت هنا

قراءة كتاب العقل سفر في عالم مجرد

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
العقل سفر في عالم مجرد

العقل سفر في عالم مجرد

كتاب " العقل سفر في عالم مجرد " ، تأليف ماهر أبو شقرا ، والذي صدر دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

السببية

إن الواقع أكثر تعقيداً بكثير مما نعتقد. هو مليء بالتفاصيل التي لا نهاية لها ولا سبيل لحصرها، وهي في ترابط وتكامل واعتمادية شاملة فيما بينها بشكلٍ يجعل القدرة على الإلمام بها مسألة مستحيلة. إن محاولة تفسير وفهم مظاهر هذا الواقع، أي المعرفة، هي ممارسة دأبنا عليها مذ وجدنا في هذا العالم. وعلى الرغم من أن الواقع هائل التفاصيل التي لا سبيل لحصرها، غير أننا اعتمدنا منهجاً معرفياً يرتكز في مقاربته على التفاصيل، المنهج السببيّ. وهو منهج، كما سنرى لاحقاً، ذاتي غير موضوعي، يركز على بعض التفاصيل التي تناسب المنطلقات الفكرية للشخص الذي يمارس المعرفة، فيما يهمل الكم الهائل من التفاصيل الموجودة، بالأحرى الكم اللامتناهي من التفاصيل المتوافرة في الوجود. بمعنى آخر، مطلق شخص يعتمد منهجاً سببيَّا في المعرفة سيرتكز على ما يعرفه من تفاصيل قليلة، وأسوأ، ما يتناسب مع منطلقاته الفكرية الذاتية، وسط واقع هائل التفاصيل...

لعل هذا الكتاب هو محاولة لاستكمال منهج فكري موجود أصلاً، منهج لا يرتكز على ما نعرفه من تفاصيل ووقائع، بل يلحظ ويدير الجزء الهائل الذي لا نعرفه من الوجود، منهج فكري مجرد...

***

السببية والتكوين... الخلق

أذكر مثالاً يحلو للاإلحاديين ذكره وتكراره وفي نيتهم إثبات أن لكل شيء سبباً وبالتالي الوجود.

كنت شاباً صغيراً، غارقاً في خضم تساؤلاتي حول الوجود والدنيا، وإذا بجدلية الإيمان والإلحاد تأخذ حيزاً مهماً من تفكيري ومن نقاشاتي، شأني شأن معظم الشباب في مثل سني. أذكر أنه جاءني أحد الرجال بقصة سمعتها لاحقاً مرات عديدة وبنسخ معدلة من أشخاص آخرين، وتحكي عن حوار بين حكيم وفتى لا يؤمن بالخالق. وإذا بالفتى يسأل الحكيم عمن بنى البيت العتيق الذي يسكنه الحكيم العجوز. فيجيب الحكيم بأن البيت بني لوحده. وعندما تهكم الفتى إزاء إجابة العجوز، أجاب الأخير بسؤال: «كيف تصدق أن الكون بني لوحده من دون خالق، ولا تصدق قصتي عن الكوخ الذي أسكنه والذي بني لوحده؟».

هذا هو المنطق السببي؛ البيت إذن بناه إنسان بالتأكيد.

غير أن هذا المنطق يغفل أن هناك عوامل أخرى تدخل في عملية البناء كالحاجة والضرورة والدافع، هذا فضلاً عن المواد، ولهذه أيضاً مسببّ، ومكونات ضمنها مكونات ضمنها مكونات... السببية لا تفضي إلى مكان إلا إلى سلسلة لا متناهية ولا طائل منها أبداً...

والارتكاز على السببية في تصور عملية تكوين الوجود يتلاءم تماماً مع ما يراه ويدركه ويعيشه الفكر الإنساني في حياته اليومية، كأن ينطبع في ذهنه ما يراه من الأشياء وما يجول في فكره كانعكاس لما يراه تحديداً، دون إدراك وتبصر في العوامل المجردة التي تنطلق منها عملية التكوين - وذلك كما أسلفنا، وكما سنرى في فصول لاحقة، لا يدركه إلا الوعي المجرد. وبالتالي فإن فكرة التكوين بالخلق التي ترتكز على المنهج السببي، تتناسب وما يراه الإنسان كل يوم... فالإنسان يرى اليد التي صنعت كرسياً، ويتناسى مجمل العوامل الموضوعية من مادة وتصميم وتوازنات وزمن، والتي لولاها ما صنع هذا الكرسي... وكذلك الأمر بالنسبة إلى عملية التكوين الذي يعزيه إلى خالق مفترض مغفلاً مجمل العوامل الموضوعية الأخرى من مادة وتوازنات وزمن...

فالسببية ترتكز على ركيزتين أساسيتين، أولاهما أن لكل شيء سبباً. أما ثانيتهما فهي فصل مكونات الوجود بين سبب ونتيجة، خالق ومخلوق. فعلاً، لقد دمغت السببية معظم مظاهر الحياة، وسيطر منطقها على الفكر الإنساني الجماعي بشكل كامل.

*

لقد كان الإنسان يعيش في الطبيعة، يتعايش معها فتتطور قدراته ومؤهلاته ليتكون أمامه نمط عيش مختلف بتحديات جديدة غريبة عنه وما كان قد تصورها من قبل. تحديات حتمت عليه مزيداً من التطوير في القدرات والمؤهلات، وهكذا دواليك... كان الإنسان يعيش بتناغم مع الطبيعة، مع قسوتها وطغيانها وكل ما فيها. كان يعيش معها بتلقائية مطلقة. لم يكن يفكر في «أسباب» ظواهرها، كانت كلها مشاعاً له بلا أية تعقيدات.

غير أن نمط الحياة تغير، وزاد تعقيده، وكثرت تفاصيله. والذي كان بديهياً تلقائياً أمسى معقداً ينقصه الوضوح. ودخلت مفاهيم جديدة إلى حياة الإنسان كالملكية والسلطة وكل ما يترتب عليها من تفاصيل وتفاصيل التفاصيل. ومن رحم عجز الإنسان على الإلمام بالتفاصيل والتعقيدات الطارئة والمتزايدة على حياته ومجتمعه، ظهر المنهج السببي. منهجٌ ظاهره يهدف إلى تحليل الحياة بغية فهمها، غير أن واقعه هو التالي: التركيز على تفاصيل قليلة واضحة وإهمال الغالبية الكاسحة من العوامل اللامتناهية المؤثرة.

والأنماط الاقتصادية المرتكزة على الاستغلال، والتي عرفها ولايزال يعيشها المجتمع البشري، ولد من رحمها المنهج السببي ليهيمن سلطاناً على المنظومات الفكرية السائدة، تلك المنظومات التي تعزز بدورها بالمقابل هذه المنهجية وتسهم في ترسيخها كالأديان مثلاً، وخصوصاً «السماوية» منها.

إن أثر المنهج السببي على المجتمع الإنساني هائل جداً... لقد بُدد الكثير من الثروات على البحث في مسببات الأمور، مسببات لاتنتهي ولا مجال لتعدادها، فيما العالم بمعظمه يرزح تحت وطأة الفقر والمجاعة والذلّ.

الصفحات