كتاب " العقل سفر في عالم مجرد " ، تأليف ماهر أبو شقرا ، والذي صدر دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب العقل سفر في عالم مجرد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

العقل سفر في عالم مجرد
السببية ذاتية غير موضوعية
إن المنهج السببي منهج ذاتي تماماً غير موضوعي، ومنهج خطي بسيط سهل الاستيعاب، ولعل هذا أحد أوضح العوامل الذهنية التي أسهمت ولاتزال تسهم في طغيانه على عقولنا.
إن «سبب» ظاهرة معينة مسألة ذاتية لأقصى الحدود، وتختلف من شخص إلى شخص مما يجعل البحث في مسببات الأشياء مضيعة للوقت ولا يفضي إلى مكان أبداً. إن المنهجية السببية في مقاربة الأحداث وظواهر الحياة مقاربة غير موضوعية ولا تأخذ الطابع الجدلي والعلاقة المترابطة الاعتمادية بين جميع عناصر الوجود. تأخذ في الاعتبار المسائل الواضحة، وتهمل الكم الساحق من العوامل الأخرى غير الظاهرة. هي بنت الفكر، تنتمي إليه، وليس الوعي الموضوعي المجرد، وسنبحث في ذلك في فصل لاحق في هذا الكتاب.
والمنهج السببي دائماً ما يتبع مساراً خطياً بسيطاً للزمن، كرونولوجيا. في الواقع، إن المسار الخطي للزمن هو تعبير بسيط عن مروره، إنما لا يعبر عن حقيقته أبداً. ثم إن مرور الزمن بدوره هو جزء من العوامل المؤثرة في حدث معين، ونحن دائماً ما نهمل ذلك لأنه مسألة بديهية في نظرنا. فالمقاربة الخطية للزمن تجعل من السابق مرحلة مضت، وليس جزءاً من الحاضر.
- الزمن في الواقع كروي كرويّ...
*
كنت في نقاش مع أحد أصدقائي. كان يحاول أن يثبت لي صحة المنهج السببي وبساطته... دفع كوباً من يده إلى الأرض وانكسر. كان يفكر في أن «السبب» في كسر الكوب هو قوة يده التي دفعته إلى الأرض؛ وكنت أفكر أياً من «الأسباب» أعتمد؟ هل يده التي دفعت الكوب؟ أم أن سعيه لدعم السببية هو الذي كسره؟ أم أن حدثاً معيناً بل عدداً لامتناهياً من الأحداث التي نجهلها في طفولته أسهمت في تكوين شخصيته على هذا النحو العصبي الذي جعله يثبت نقطته بهذه الطريقة؟ أم واقع أنه ولد في لبنان وحصل لي شرف لقائه مثلاً؟ أو 11 أيلول 2001 التي ذهبت معها فرصة عمل كان قد تقدم بطلب للحصول عليها ليذهب إلى الولايات المتحدة الأميركية نهائياً فلا يحصل لي شرف لقائه، أم ، أم، أم... في الواقع إن كل نبض في الكون يؤثر في كل نبض آخر، مرتبط به متفاعل معه.
***
غرق في التفاصيل
إن المنهج السببي، كما أسلفنا، منهج يرتكز على التفاصيل، بالأحرى على القليل من التفاصيل، على حساب المنظور الجدلي الوحدوي للوجود. يرتكز على القليل من التفاصيل ضمن وجود لا نهاية لتفاصيله، ولا سبيل لتعدادها. وإذ نحن متدربون على اعتماد هذا المنهج، فإننا نعتمده في كل شيء، حتى في توقعاتنا للمستقبل الإيجابية منها والسلبية، في مخاوفنا وفي أحزاننا. إن التفاصيل كثيرة، كثيرة جداً لدرجة أننا دائماً، أقول دائماً، ما سنجد فيها ما يغذي توقعاتنا ويؤكد مخاوفنا ويعزز أحزاننا، والأمر ينطبق تماماً حتى على اضطرابات العقل وأثر المنهج السببي في تعزيزها.
***
سيناريوهات لامتناهية
إنطلاقاً من أن السببية منهج ذاتي تماماً غير موضوعيّ، فمن الطبيعي أنه عندما نستخدم المنهج السببي، ونحن دائماً ما نفعل ذلك في مقاربتنا للأمور، فإن السببية ستتيح لنا دائماً كماً هائلاً لامتناهياً من التفسيرات لظاهرة معينة، كماً هائلاً من السيناريوهات، والأهم أنها جميعها تنطبق. غير أننا غالباً ما نعتمد أحدها وغالباً ما نتعصب للتفسير أو للسيناريو الذي اخترناه. إن جميع التفسيرات تنطبق لأنها تنطلق من منهج سببي ذاتي وتتبع مساراً خطياً بسيطاً يفتقر إلى الشمول والاعتمادية المتبادلة لجميع عناصر الوجود. إن جميع هذه التفسيرات والسيناريوهات التي نختارها بخيار ذاتي انطلاقاً من ذاتنا، ومن منظورنا الخاص ونعتمدها بإخلاص ونتعصب لها إنما تجمعها صفة مشتركة: بعدها عن الحقيقة، بالتالي بعدها عن الواقع الموضوعي ضمن الوجود الموحد الذي يعبر عن تلك العلاقة الاعتمادية والترابط بين سائر مكوناته وعناصره...
السببية ستتيح لنا دائماً كماً هائلاً لامتناهياً من التفسيرات لظاهرة معينة، كماً هائلاً من السيناريوهات، واعتماد أي منها دائماً ما يوحي لنا بأننا نعرف، بأننا متمكنون من الحقيقة مالكون لها. فكلما قل اطلاع شخص ما زاد منسوب تعصبه وشعوره بأنه «يعرف». والعكس صحيح، فإنه كلما اطلع الشخص أكثر وزادت معرفته، زاد تواضعه. في الواقع إن سعة الاطلاع تظهر لنا كم أننا لا نعرف، وكلما عرفنا أكثر، زاد تواضعنا أمام الواقع. غير أن المنهج السببي الذاتي، العاجز تماماً من أن يلحظ الطابع الشمولي المترابط والجدلي للوجود، وبالتالي الطابع الشمولي للمعرفة والفهم المتمخضين عنه، إنما يجعلنا نبحث في تدعيم نظرتنا أكثر ومحاولة تأكيدها، بما معناه عدم مضاعفة معرفتنا وشمولية اطلاعنا... مع الأسف، نحن متدربون كثيراً على المنهج السببي لآلاف السنين، وكل المنظومة الفكرية السائدة إنما المنهج السببي أساس لها...
قد يبدو الأمر مسألة عادية طبيعية وغير ذات شأن، وقد يبدو للوهلة الأولى أن أثر المقاربة السببية الذاتية صغير وغير واضح بمكان... لكن فلنتمعن بأمثلة معينة ستظهر لنا كم أن ابتعاد معرفتنا عن الواقع الموضوعي المجرد من خلال المنهج السببي سيرتب آثاراً كبيرة، أحياناً مدمرة وكثيراً ما تكون غير متوقعة. كيف أن الذاتية واعتماد التعصب لفكرة معينة وتفسير معين إزاء استحالة الإلمام بالكم الهائل من التفاصيل يجعل منا عرضة للكوارث. وهذا ليس دعوة لزيادة الاطلاع والسعة المعرفية، بل لتغيير المنهج المعرفي المتبع، المنهج السببي. ففي ظل السببية، التي ترتكز على التفاصيل، يصبح الوصول إلى تفسير وفهم صحيح مستحيلاً طالما أنه من المستحيل الإلمام بجميع التفاصيل الموجودة. إذن المطلوب هو منهج معرفي يتناسب مع طبيعة الوجود، منهج وفهم جدلي يلحظ الطابع الوحدوي للوجود والاعتمادية التي تسود عناصره جميعها.