كتاب " العقل سفر في عالم مجرد " ، تأليف ماهر أبو شقرا ، والذي صدر دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب العقل سفر في عالم مجرد
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

العقل سفر في عالم مجرد
أحد معارفي شخصٌ من أولئك الذين يفسرون سائر مظاهر الحياة تفسيراً ذاتياً سببياً. تجده دائم التحليل في الأسباب، يغوص فيها حتى النخاع في سعيه لتفسير ظاهرة معينة. وهو بذلك إنما يسعى فقط لتأكيد فهم معد سلفاً في فكره، يتعصب له ويسعى لتأكيده من خلال السببية والمنهج المعرفي الخطي. وتجد ذلك ينطبق على سائر الأمور المرتبطة بحياته من العمل، إلى الاجتماعيات، وصولاً إلى الأمور المتعلقة بالصحة...
من البديهي مثلاً أن هذا الشخص، فلنسمه هنا «عارف»، يكره القراءة التي من الأرجح أنها ستفتح آفاقاً هو في لاوعيه يخاف منها كونها قد تهز قناعاته الراسخة، فضلاً عن أنها ستظهر له كم من الأمور والتفاصيل هناك، تفاصيل لا يعرفها، والأسوأ، أن لا سبيل للإلمام بها أبداً...
عارف دأب على المنهج السببي، يفسر كل ما يواجهه انطلاقاً من قناعاته الراسخة. بطبيعة الحال، وبالنظر إلى الوفرة الهائلة من التفاصيل، فإن كل تفصيل أو مظهر من مظاهر الحياة كان يؤكد له قناعاته يوماً بعد يوم. (يا للعجب!!!) وكلما زاد تفصيلٌ قل تواضعه، واتجهت نبرته وأسلوب حديثه باتجاه الحسم الفكري التام، أسلوب يجعل المستمع يشعر بأن كل ما يقوله حقيقة، اليقين عينه...
كان عارف يبتعد عن الواقع الموضوعي يوماً بعد يوم. كان الواقع الفكري الذي يعيشه على المستوى اليومي أساساً لمظاهر حياته كافة، ليشمل بذلك أسلوب الحياة والغذاء ومقاربته للصحة الشخصية والأمراض وما إلى هنالك. ويوماً بعد يوم تضاعفت «الفجوة بين ما يعرفه، وما يظن أنه يعرفه»، و«من هذه الفجوة تولدت»(**) الكارثة... أصيب بمرض نادر جداً...
إنك لتجد العديد من الأمثلة التي تشبه بطل أقصوصتنا عارف؛ أشخاص وعائلات تتراكم لديها المصائب الاستثنائية جداً، وذلك إنما هو نتاج هذا التعصب الفكري، الحسم الفكري المرتكز على فهم خطي سببي بسيط. والأسوأ هو أن هذه الكوارث الاستثنائية في غالب الأحيان لا تحفز ضحاياها على انتهاج منهج ذهني مختلف، منهج جدلي ومتواضع، إنما تولد مقاربة غريبة جداً من قبل الشخص نفسه والمجتمع المحيط على السواء. إن هذه الأحداث الاستثنائية كثيراً ما تعزز القناعات الراسخة نفسها وتدعمها، تولد أحكاماً مقلوبة من مثل: «ما زالوا أقوياء رغم كل ما حصل معهم!» أو مثل: «إن التجارب والكوارث صقلتهم وزادت من قوتهم وصلابتهم!» غير أن الواقع هو أنه لم يتغير شيء... المنهج الفكري هو هو، والقناعات هي هي، والكوارث المتلاحقة هي هي... وفي أحيان كثيرة تكون فكرة أن الله يختبرهم هي أفضل عزاء ممكن يلجأون إليه...
لكن في جميع الأحوال، لا يجوز أن نعمم العكس. بمعنى أن الأحداث الاستثنائية من الممكن أن تحصل أيضاً مع الأشخاص اللاعصبويين تجاه أفكارهم وقناعاتهم، وأولئك الذين لا يتبعون منهجاً ذهنياً خطياً سببياً جامداً، وإن كان بنسبٍ أقلّ...
*
نحن بلاوعينا ننشد تلقائياً إلى تأكيد قناعاتنا الراسخة والتعصب لها، وبالتالي فإن جميع منطلقاتنا الفكرية ليست وليدة المجرد والموضوعي ولا وليدة التوق إلى المعرفة، بل نتاج قناعات راسخة لدينا أصلاً نسعى إلى تأكيدها. كما سنرى لاحقاً في بحثنا في الفكر والوعي، فإن سلطة فكرنا على ذاته معدومة تماماً بينما العكس هو الصحيح بالنسبة إلى الوعي الموضوعي المجرد. نتعصب لقناعاتنا ودائماً ما نسعى فقط إلى تأكيدها بحيث إننا نسعى إلى أن نسمع ما نريد أن نسمعه، ما نحن مقتنعون به أصلاً. والإنسان المتعصب لفكره، سواء سياسياً أو نفسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، إنما هو متعصب لمنظومة فكرية مبنية على مجموعة ضيقة من التفاصيل، بحيث أنها كلما ضاقت، زاد شعوره بالأمان إزاءها بفعل قدرته على الإلمام بها والتمكن منها، وازدادت بالتالي شراسته وعصبيته في الدفاع عن قناعاته ومنطلقاته بالاستناد إلى هذه المنظومة الفكرية. يشعر بأن اهتزاز أي ركن من أركانها سيدمرها تماماً، فيسعى دوماً إلى تأكيدها، وهو دائماً ما سيجد السبيل إلى ذلك بفعل توافر كم هائل من التفاصيل في الوجود، دائماً ما سيقدر على تأكيد قناعاته.
إن التطور المعرفي إنما يتطلب منا فكراً منفتحاً مرناً، يأخذ في الاعتبار دوماً احتمال أن تكون بعض قناعاتنا، وأحياناً الكثير منها، أو حتى جميعها، قناعات خاطئة. إن مدى المرونة والانفتاح على جميع الاحتمالات والقدرة والجهوزية لاحتواء أشكال النقض كافة للقناعات والمنطلقات الفكرية التي لدينا هي معيار إمكانيتنا على التطور...
*
إذ أكتب هذه السطور، يبلغ الاحتقان السياسي أوجه في لبنان. إنك لترى ملامح هذا الاحتقان في وجوه سائر جهابذة السياسة اللبنانية وأصواتهم وخطاباتهم وتصريحاتهم، وذلك في جميع وسائل الإعلام المحلية المرئية والمسموعة والمكتوبة. كل هذا إنما يجعل الاطلاع على جميع وسائل الإعلام هذه مضيعة تامة للوقت والطاقة، وتشويشاً وتلويثاً للذهن وللمعرفة. وإذ تنقل بين محطات التلفزة المحلية، كثيراً ما تجد ضيفين في حلقة حوارية سياسية يقومان بمناظرة يستعرضان فيها الحجج. وإذا كنت محايداً، فإن ما سيلفتك حتماً هو حجم الإقناع الذي تتسم به طروحات كل من الطرفين. بالطبع إذا لم تكن محايداً تماماً، فإن فرصة أن تلاحظ هذا الأمر ضئيلة جداً. فإذا كنت منحازاً لأي من الطرفين، فإن فكرك سيعمد إلى تأكيد قناعاتك الراسخة أصلاً، فتتبنى تلقائياً وبعصبوية شديدة الطرح الذي يناسب قناعاتك ومنطلقاتك الفكرية والسياسية. إذن، فإن مطلق مشاهد محايد لمناظرة سياسية تلفزيونية، خصوصاً إذا كان المتناظران على مستوى عال ومتكافئ، ستبدو له الطروحات الفكرية لكلا الطرفين منطقية تماماً.
في الواقع، إن المنهجية التي ينطلق منها الطرحان المتناقضان، أي المنهجية السببية الذاتية التي ترتكز على التفاصيل، ستجعل أمام كل من الطرفين وفرة عظيمةً في التفاصيل. وفرةً ستتيح لكل من الطرفين وانطلاقاً من قناعاته الراسخة أصلاً، القدرة على الإتيان بالحجج التي ستؤكد وتدعم كلامه وطروحاته، وستتيح له إمكانية سردية بالحجج والتحليلات المطلوبة التي دائماً ما ستنجح في أن تنطبق، والأسوأ أنها ستبدو منطقية تماماً خصوصاً للمشاهدين الذين يتشارك معهم المنطلقات الفكرية والعصبوية السياسية نفسها. والمشاهد المنحاز، وكذلك انطلاقاً من قناعاته وفي خضم سعيه الفكري إلى تأكيدها، سيزداد تعصباً لقناعاته. فالاحتقان الذي يظهره النقاش المتلفز إنما ينسحب أيضاً على الجماهير التي تسعى أطراف النقاش إلى تجييشها. نقاش لا طائل منه، ولن ينتهي باقتناع أحد الطرفين برأي الآخر، إنما سيبقى الاحتقان هو هو بل سيزيد إلى حد قد يصبح معه التوتر وحتى العنف مسألة حتمية لا مفر منها...