أنت هنا

قراءة كتاب الزحف المقدس

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الزحف المقدس

الزحف المقدس

كتاب "الزحف المقدس - مظاهرات التنحّي، وتشكّل عبادة ناصر"؛ يقول الكاتب والباحث شريف يونس، في مقدمة كتابه:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 2

مقدّمة

من ليلة التاسع من يونيو 1967 وحتّى مساء العاشر منه، اندفع المصريّون في شوارع رئيسية كثيرة في عاصمة البلاد وعديد من مدنها، وتجمّعوا حتّى في القرى (وملأ العرب شوارع أخرى في عدّة مدن عربية). تجمّعوا ولا هدف لهم سوى عودة رئيس مصري ألحق بالبلاد أكبر هزيمة منذ معركة «التل الكبير» عام 1882، وأعلن «تنحِّيه» عن السلطة ـ كتعبير شعري عن الاستقالة؟ ـ وتوريثها لزميل السلاح والسلطة زكريا محيي الدين. ثم عادوا إلى بيوتهم غانمين حين أعلن عبد الناصر، أو «ناصر» أو «الريِّس»، كما كانوا يسمّونه، تراجعه و«قبوله» الاستمرار في السلطة رئيسًا لـ«الجمهورية العربية المتّحدة»، التي هي اسم مصر رسميًّا آنذاك. والحدث فريد من نوعه في تاريخ البلاد، وربّما كان نادرًا في التاريخ كلّه.
وقد قيل إنّ هذه المظاهرات الفريدة من نوعها قد دبّرها الاتّحاد الاشتراكي. ربّما يؤيّد هذه الدعوى أنّ الاتحاد الاشتراكي في عهد علي صبري كان يحاول أن يبني قوّة سياسية فاعلة مستقلّة عن الإدارة الحكومية، تجسّدت بأوضح ما يكون في تجربة «الاستدعاء السياسي» التي تمّت في أوائل فبراير 1967، أي قبل حدث التنحّي بشهور، بمناسبة استقبال رئيس العراق عبد الرحمن عارف، حيث استطاع التنظيم أن يجمع عشرات الآلاف لاستقباله بغير الطريق الإداري، وإنّما باتصالاته الخاصّة، وتبيّن بالتجارب أنّه يمكن بهذه الوسيلة جمع 100 ألف خلال 10 ساعات، أو 40 ألفًا في ثلاث ساعات في القاهرة (حوار منشور مع علي صبري، إبريل 1967)، ليصبح الاتّحاد بذلك قوّة يُحسب حسابها. وربّما تشير الشعارات التي نشرها الضابط الحرّ ومؤرّخ الثورة أحمد حمروش إلى تزاوج يجمع بين التلقائية والتنظيم تبرّر القول بأنّ ثمّة جهة قد دبّرت المظاهرات، فكان منها على سبيل المثال «ارفض ارفض يا زكريا [محيي الدين]/ عبد الناصر ميّة الميّة». «حنحارب، حنحارب»، «ما تقوليش ما تقوليش/ عبد الناصر غيره مافيش»؛ ولكن هناك أيضًا: «مكتوب على سلاحنا/ عبد الناصر كفاحنا»؛ «يا أمريكا لمّي فلوسك/ عبد الناصر جاي يدوسك»؛ «وحياة السد لأقول الجد/ بعد عبد الناصر ما في حد»، فتبدو هذه الشعارات الأخيرة واضحة الافتعال، إذا نُسبت لجمهور غير منظم، خصوصًا الشعار الأخير، فلم تكن ثمّة صلة بين السدّ والهزيمة، وإنّما هي محاولة للتذكير بالإنجازات.
وثمّة أيضًا شهادات فردية بأنّ بعض المواصلات العامّة قد «تبرّعت» بنقل الناس إلى أماكن التجمّع، كما نقلت وسائل أخرى جموعًا من الريف والمدن الأخرى إلى القاهرة. وظهر بعض رجال الاتحاد الاشتراكي في وسط التجمّعات الجماهيرية في الريف والمدينة، لكن ربّما كان ظهورهم بحكم تواجدهم الطبيعي بين السكان.
ومع ذلك، والحدث ليس ببعيد، وعديد من شهوده أحياء، ثمّة شهادات على أنّ الاتحاد الاشتراكي، الفقير الشعبية أصلًا برغم عضويّته الاسمية المليونية، كان مصابًا بحالة من الشلل، في البداية على الأقلّ، وثمّة عديد من الأشخاص، منهم مثقّفون وعلماء، شهدوا أنّهم اندفعوا إلى الشوارع بمجرّد انتهاء خطاب التنحّي. وشهد بعض أعضاء منظمة الشباب أنّهم أصيبوا بمفاجأةٍ شلَّتهم، فكانوا لا يدرون ما عليهم عمله بوصفهم «قيادات سياسية»، حتّى في صبيحة اليوم التالي بعد أن ملأ البشر الشوارع. هذا فضلًا عن أنّ البيان أذيع مساءً، بينما الناس في بيوتهم، بعيدين عن أماكن تجمّعهم الطبيعية في أعمالهم، حيث يسهل نسبيًّا تحريضهم وجمعهم، وحتّى عن أماكن لهوِهم، حيث كانت تخيّم عليهم أشباحُ كارثة يجهلون أبعادها.
وقبل هذا كلّه كان النظام الحاكم في أضعف لحظاته، وقد نقل الناس فجأة من قمّة النشوة بنصر كاسح منتظَر وَعد به الزعيم صراحة، على نحو ما سنرى، إلى ظلمات كارثة مروّعة. لم يكن مثل هذا الجوّ مناسبًا ليطلب تنظيمٌ، مشكوكٌ في شعبيّته أصلًا، من الناس أن يؤيّدوه ونظامَه، ولم يكن يملك مصداقية مطالبتهم بأن يصفحوا عن الهزيمة ببساطة. ولم يكن مناسبًا استخدام الوسائل التي اعتادت عليها السلطة في تدبير المظاهرات المؤيّدة، من قبيل إعفاء المشاركين من العمل وقت المظاهرات، أو تدبير بدل نقدي، أو حتّى التخويف الضمني من عدم المشاركة، باعتباره إظهارًا لدرجة من العداء للنظام لها عواقبها؛ لم يكن هذا كلّه قابلًا للاستخدام في هذه المناسبة الكارثية، ولا في تلك اللحظة من ليل القاهرة.. حيث بدا كلّ شيء في حالة انهيار.
هذا كلّه فضلًا عن أنّ النظام، كنظام، لم يكن مهدّدًا جديًّا.. فنقل السلطة إلى زكريا محيي الدين ـ وهو الذي تميّز بأكبر تعلّق شخصي بعبد الناصر بين أعضاء مجلس قيادة الثورة ـ لا يعني نقل السلطة إلى طرف معادٍ للمجموعة الحاكمة، ناهيك عن النظام ككل. فلم يكن ثمّة دافع قويّ لينتفض النظام من أعماقه ضدّ تهديد جذري. وأقصى ما يمكن أن يقال إنّ نقل السلطة كان يمكن أن يغيّر بعض التوازنات بين المجموعات والتيارات التي تشكّل منها النظام الحاكم.

الصفحات