كتاب "الزحف المقدس - مظاهرات التنحّي، وتشكّل عبادة ناصر"؛ يقول الكاتب والباحث شريف يونس، في مقدمة كتابه:
أنت هنا
قراءة كتاب الزحف المقدس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الزحف المقدس
والخلاصة هنا هي فكرة حاجة الشعب إلى الوصاية. فالقول بأنّ التعبير «السليم» عن سلطة الشعب، أو تحقيق مصالحه، يتطلّب حكم زمرة من الضبّاط، يفترض أنّ الشعب نفسه عاجز عن ممارسة سلطته، أي أنّ به «قصورًا» أو «نقصًا» ما، يجعله غير مؤهل، وبالتالي يحتاج إلى وصاية الضباط. وبالفعل، عبَّر الضباط الأحرار، وصحفيون وغيرهم، عن هذه الرؤية صراحة. فوفقًا لمقال لعبد الناصر، تتمثّل مهمّة الضبّاط في إنقاذ عبد ذليل مستضعف من بطش سيّده: «منذ سنوات لا تتجاوز أصابع اليدين سمعت أنينك الرهيب... حين قلت في صوت يائس حزين «من سيحمل عنى عبء القضاء على الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي؟»... ولم تعلم أيّها المواطن أنّ الجيش يحسّ بإحساسك» (1955). فالمواطن في هذه الرؤية لا يكاد حتّى يحتج، فقط يصدر عنه أنين متصل طويل عاجز بلا أمل، حتّى أتى الضبّاط من حيث لا يدري وأنقذوه بشهامة. وبعبارات أكثر تهذيبًا: «ثورة يوليو 1952... كانت تعبر عن آلامكم أنتم أيّها المواطنون... وكان [الشعب] يشعر أنّ الجيش يقف عقبة في سبيله... فوجدنا أنّ هناك مسئولية كبرى تقع على عاتقنا نحن ضبّاط الجيش... حتّى نشترك مع الشعب في كفاحه [الشعب يكافح إذن في الصيغ المهذبة]... فقمنا بهذه الثورة نعبر عنكم وعن إرادتكم وعن آلامكم وعن آمالكم» (1954).
لكنّ فكرة الشعب العاجز المحتاج إلى وصاية تتعدّى خطب عبد الناصر، بل لعلّها ترجع إلى المنظمات السلطوية المختلفة، التي سبقت الإشارة إليها، منذ الثلاثينيات. لذلك كان عهد قيام سلطة الضبّاط وتوطيدها حافلًا بكتابات وخطب أخرى تشير إلى الفكرة نفسها. مثلًا، كتب الصحفي جلال الدين الحمامصي، أنّ الشعب «لم يكن يعلم بالحقائق التي تمكّنه من أن يحكم، ولم يكن يذهب باختياره إلى صناديق الانتخاب... إنّنا نريد الشفاء الكامل من كلّ الأمراض التي أضعف الاستعمار بها كياننا الاجتماعي والسياسي». حين يتمّ هذا الشفاء، وقتما يتمّ، يمكن أن يحصل الشعب على السيادة. ومهمّة الضبّاط هي بالتحديد تحقيق هذا الشفاء.
على هذا النحو كان أساس شرعية السلطة الجديدة هي الحطّ من قدر الشعب كمبرّر للوصاية عليه. وبناء عليه، يعبر الضبّاط عن الشعب ويخدمونه بغير حاجة إلى تفويض منه، بل كالتزام أخلاقي، لأنّ دورهم، على العكس، هو تربيته وشفاؤه من عيوبه الأخلاقية وإرشاده ومنعه من إلحاق الضرر بنفسه، كمهمّة مؤقتة إلى أن «يشفى»، أو «ينضج» ويتسلّم سلطته المستحقّة له دون غيره.
ويتمثّل منطق الوصاية التربوية هذا بكثير من أبعاده في قول عبد الناصر الجامع التالي (1954):
أتى إلينا رجال السياسة وقالوا لنا: لقد أدّيتم الرسالة وعليكم الآن أن تسلّموا الأمانة [: السلطة]. قال بعضهم إنّ علينا أن نسلّمها باسم الحرّية وباسم الديمقراطية، وقال بعضهم إنّ علينا أن نسلّمها باسم الإسلام وباسم الدين... [ولكنّهم] لم يقيموا في هذا الوطن عزّة ولا كرامة ولا حرّية، فآثرنا أن نحتفظ بالأمانة... [لنحميها] من الخداع ونحميها من التضليل... ونحن نعلم أنّنا سنقاسى في سبيل تسليمها إلى أهلها الحقيقيين... ونحن نعلم أنّ هذا الوطن الذي لم تستقرّ فيه الأفكار [كذا] طوال السنين الماضية قد يتزعزع، وقد لا يفهم الأمور على حقيقتها... لم يفارقنا الإيمان وآثرنا أن نسير في الشوط إلى نهايته... و[نحن] نبثّ دائمًا بين أبناء هذا الوطن العزّة والكرامة والحرّية. وكنّا نشعر بهذا أنّنا نخلق وطنًا جديدًا ونخلق جيلًا جديدًا لا يعتمد على شخص أو أشخاص... ولكنّه يعتمد على المبادئ والمُثل العليا...
فالمشروع السياسي هنا هو تربية الشعب على العزّة والكرامة والحرّية من ناحية، وحماية ذهنه من الأفكار الضارّة من ناحية أخرى. والسلطة هنا «أمانة»، لم يأتمن الشعب الضبّاط عليها صراحة، بل حملها الضبّاط بقرار من جانبهم، ليتولّوا، مختارين، مهمّة الوصاية على الشعب وتربيته، التي ستكتمل، فيما يُفترض، بإنشاء جيل جديد، وبالتالي وطن جديد، يعيش بالمبادئ العليا التي سيلقّنها له الضبّاط.
المطلوب إذن هو إعادة تشكيل الشعب، ليتحوّل إلى كيان واحد متّحد، يسير خلف الضباط، أو في نفس الطريق الذي رسموه، «متّحرر» من «البلبلة»، بفعل تحكّم السلطة بالمجال السياسي والإيديولوجي. وقد لخّص أول شعار للضباط (وهو شعار «هيئة التحرير»، التي بدأ إنشاؤها بعد ثلاثة شهور من الانقلاب)، هذا المفهوم الجديد للسياسة: «الاتّحاد والنظام والعمل». فهو شعار إجرائي، لا يشير إلى سياسة بعينها، وإنّما يعني، كما جاء في وثائق وخطب «الهيئة»، انتهاء «الفرقة الحزبية»، و«فوضى» الرأي والتنظيم، وإحلال «العمل» محلّ «الجدل الفارغ».
بهذا المنطق، تعتبر تهدئة الشعب، أو «إخلاده إلى السكينة والهدوء» محطّة مهمّة على طريق تربية الشعب، أي على طريق «تحرّره» وإقامة «الديمقراطية السليمة». ويفيد تعبير «الديمقراطية السليمة»، الذي صكّه الضبّاط، العزم على إقامة هذا النمط الخاصّ من «حكم الشعب» القائم على الوصاية، أو القوامة، وبمقتضاه تُعْتَبر أشكال الحكم الأخرى ديمقراطية مزيفة، أو ربّما ديكتاتورية صريحة. وبتعبير الصاغ الطحاوي ـ المسئول الفعلي عن هيئة التحرير وأهم مدبّري إضرابات مارس المؤيّدة للضبّاط ـ كانت هذه الإضرابات انتصارًا للشعب على أعدائه الذين كانوا ينوون «القضاء على الثورة وعلى الوطن وتسليم رقاب الشعب للمستعمرين». أي أنّنا أمام لحظة يرتبط فيها كيان «الشعب» و«الوطن» معًا، وجودًا وعدمًا، بسلطة الضبّاط.
* * *