كتاب "الزحف المقدس - مظاهرات التنحّي، وتشكّل عبادة ناصر"؛ يقول الكاتب والباحث شريف يونس، في مقدمة كتابه:
أنت هنا
قراءة كتاب الزحف المقدس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الزحف المقدس
وبجمع سمات النظام الجديد الأساسية، نجد أنّ البلاد واجهت بحلول الانقلاب سلطة عسكرية إصلاحية مستقلة، لا عن القوى السياسية فحسب، بل كذلك عن مختلف المنظّمات الجماهيرية (النقابات مثلًا)، أي عن أصحاب الشأن المعنيّين مباشرة بما كان يُعرف بـ«مكاسب الشعب» التي كان يمنحها النظام. فلم يكن أمام الممنوحين سوى الشكر، والمطالبة بالمزيد من خلال المنظمات الجماهيرية التي سُميت سياسية والتي أقامها النظام (هيئة التحرير، الاتّحاد القومي، الاتّحاد الاشتراكي العربي). وظلّ هيكل القوّة السياسية كيانًا مستغلقًا أمام مختلف القوى الاجتماعية. وفي مقال شهير وصف إحسان عبد القدوس سلطة الضباط الغامضة المنعزلة هذه بأنّها «الجمعية السرية التي تحكم مصر» (1954).
بمنطق حكم الجماعة السرية هذا، كان أكثر الأشياء بداهة لهؤلاء العسكريين، وهم يشعرون بالسياسيين يستخفّون بهم ويسعون لاستثمارهم، أن يُصَفُّوا أولًا الحياة السياسية عمومًا، ثم يطرحوا أنفسهم ممثّلين للشعب في عمومه، لأنّهم لا يستطيعون أن يمثّلوا أيًّا من أطرافه، ولا أن يدخلوا في معركة سياسية لتمثيله، ولا أن يواجهوا أيّة قوّة في مجال سياسي مفتوح. وكذلك لأنّ إيديولوجيتهم وأهدافهم الإصلاحية كانت على قدر من الغموض لا يسمح بتجاوز التعميمات الفضفاضة.
من جهة أخرى خلع الضباط انتماءاتهم السياسية المختلفة السابقة، واستبقوا منها ميولًا سياسية، بلا روابط تنظيمية، فأصبحوا يواجهون المشهد السياسي العامّ «أحرارًا» من كلّ التزام تجاه قواه القائمة، ولم تنجح أيّة قوّة منها، أو أيّ تحالف من القوى، في السيطرة على المسرح السياسي وإعادتهم إلى ثكناتهم.
لدينا إذن جماعة وطنية من الضبّاط، تعتمد على علاقاتها الشخصية في إدارة السلطة بشكل جماعي، في البداية، بقيادة عبد الناصر، وليس لديها أيّ التزام تجاه أيّة قوّة من القوى السياسية القائمة.. سواء الأحزاب البرلمانية أو التنظيمات غير البرلمانية التي عارضت النظام القديم. على أيّ أساس ينبني تصوّرهم لمشروعية حكمهم إذن؟
برغم أنّ الضبّاط استولوا على السلطة عسكريًّا، لم يكن متصوّرًا أن يحكموا «بحقّ الفتح» كما حكمت إمبراطوريات العصور القديمة والوسطى، أو المماليك، لأنّهم أبناء تراث الدولة الحديثة، المدنية من حيث الجوهر، وأبناء الحركة الوطنية التي رسّخت مبدأ سيادة الشعب. ولا كانوا يتمتّعون بحقّ وراثي في الحكم، ولا كان بمقدورهم أن يطرحوا حكمهم كمجرّد سلطة عسكرية قائمة على علاقاتهم الشخصية، أو على أساس تمجيد الحكم العسكري والعسكرية من حيث المبدأ، فلم يكن لهذا الجيش أيّة إنجازات «وطنية بعد عهد محمد علي، إن جاز اعتبار حروبه وطنية. لهذا، لم يتكوّن تنظيم الضباط الأحرار أصلًا بناء على أيّ من هذه التصوّرات غير الواقعية، بل على أساس الفكرة الوطنية السائدة.
واقع الأمر أنّ الضباط شكّلوا تنظيمهم من البداية نفسها بمنطق «الدفاع عن الشعب»، أو «منع استعمال الملك للجيش ضدّ الشعب»، في وقت كان فيه الشعب ثائرًا على الملك ووزاراته. بدوافعهم الوطنية التي اقتبسوها من تراث مجمل الحركة الوطنية المصرية آنذاك، لم يكن متصوّرًا أن يتولّوا السلطة إلّا بشكل مؤقت، إلى حين تسليم الحكم للشعب وفقًا للتقاليد الديمقراطية التي لم تكن قد نُسيت بعد. وكان هذا ما أعلنه محمد نجيب بالضبط في البيان الثاني للضباط.
لكنّ الضبّاط الأحرار من جهة أخرى كانوا يعتنقون في معظمهم فكرة مؤدّاها أن الأهداف الوطنية في الاستقلال والعدالة الاجتماعية إنّما تحتاج إلى «تطهير البلاد» من الخونة والمستغلّين ومن اعتبروهم «أعداء الشعب»، تمهيدًا، كما تصوّروا في البداية، لإعادة ديمقراطية «سليمة» أو «صحية». وقد قام بعضهم بالفعل ببعض عمليات الاغتيال قبل الانقلاب، سواء ضمن تنظيمات أخرى أو بعد التحاقهم بتنظيم الضبّاط الأحرار، بغرض «تطهير» البلاد ممّن اعتبروهم خونة. ومع رسوخ أقدامهم في السلطة واكتشاف مدى هشاشة النظام القديم، تزايدت رغباتهم في ممارسة الديكتاتورية بدافع وطني. وكان من الطبيعي إذن أنّهم طرحوا سلطتهم المستجدّة التي أخذوا في ترسيخها كسلطة مستبدّة باعتبارها سلطة الشعب ككل، بل وكسلطة مدنية. وبالتالي لا تتحقّق «حرّية» الشعب، أو بالأحرى مصالحه وأمنه، إلّا بضمان حرية الضبّاط، أي انفرادهم بالسلطة.
بهذا المنطق أقام الضبّاط «هيئة التحرير»، وهي أداة حشد مدنية تحت سيطرتهم، قبل حلّ الأحزاب، «باسم الشعب المصري». ووفقًا للمنطق الضمني القائل بأنّ انفراد الضباط بالحكم هو شرط تحقيق الأماني الوطنية، والإصلاح الاجتماعي، كان تحقيق هذه الحرّية يتطلّب تصفية الحياة السياسية بالكامل، وبالتالي تقوم ديمقراطية الوصاية على إلغاء الأحزاب وإخضاع منظّمات المجتمع المدني والأفراد. هذه هي الديمقراطية «السليمة» التي جاءت في المبدأ السادس من «المبادئ الستة».