كتاب "الزحف المقدس - مظاهرات التنحّي، وتشكّل عبادة ناصر"؛ يقول الكاتب والباحث شريف يونس، في مقدمة كتابه:
أنت هنا
قراءة كتاب الزحف المقدس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الزحف المقدس
الفصل الأول
الزحف المقدّس
أيًّا كانت الاختلافات في تحليل طبيعة حكم الضباط، فلا شكّ أنّه حكم عسكري. فالضباط لم يستولوا على السلطة بواسطة حزب سياسي أو أيّ تنظيم جماهيري من أيّ نوع، وإنّما اعتمدوا على وحدات من الجيش، حرّكوها بالأوامر العسكرية واستولَوا بها على أعصاب النظام القديم تحت جنح الظلام، قبل أن يبزغ فجر 23 يوليو 1952. ومع ذلك لقي الضباط ترحيبًا جماهيريًّا بعملهم بفعل الانهيار العامّ والانقسامات السياسية، سواء داخل معسكر النظام القديم، أو معسكر أعدائه (منظمات الإنتليجنسيا(*) المتمرّدة على اختلاف توجُّهاتها: الإخوان، التنظيمات الشيوعية، مصر الفتاة، جناح فتحي رضوان من الحزب الوطني).
وأيًّا كان تقييم سياساتهم، فمن المؤكّد أنّها ارتبطت بفكرة «العدالة الاجتماعية»، أو ما سُمّي وقتها «مكاسب الشعب»، ثم الشعب العامل تخصيصًا بعد الميثاق (1962). فهي تندرج بشكل أو بآخر تحت مسمّى السياسات الإصلاحية.
ظهر الضبّاط منذ البداية كقوّة إصلاحية غامضة، فلم يحتوِ بيانهم الأول سوى على شكوى من الفساد السياسي الذي طال الجيش، وتسبّب، فيما قالوا، في هزيمة 1948. ثم أعلنوا (1956) عن ستّة أهداف إصلاحية، يمكن وصفها بالغموض؛ لأنّها لا تعبّر عن برنامج بعينه، وهي: القضاء على الاستعمار وأعوانه والإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، تفيد جميعًا فكرة استقلال السلطة عن كلّ القوى السياسية والاجتماعية، الداخلية والخارجية؛ فضلًا عن إقامة جيش وطني قوي وعدالة اجتماعية وحياة ديمقراطية «سليمة». وهي تعبيرات ثبت عمليًّا أنّها فضفاضة، حيث اتّسع تصوّر «العدالة الاجتماعية» لسياسات مختلفة تراوحت بين توجيه رأس المال المديني الخاصّ الكبير مع تشجيعه، وتأميمه في عام 1960 وما بعده.
ومع ذلك، اتّخذ الضباط إجراءات إصلاحية محدّدة بسرعة كبيرة، أولها إصلاح زراعي محدود في سبتمبر 1952، ثم ثلاثة قوانين عمّالية هدفت لحماية بعض حقوق العمال وعلى رأسها التنظيم النقابي. وهنا يبرز واقع أنّ حركة الضباط في 23 يوليو لم تكن حركة الرتب العليا المرتبطة برءوس النظام، بل الرتب الوسطى التي كانت لديها أسبابها للسخط، وعلى رأسها أحوال الجيش نفسه.
كذلك تراوح مفهوم الديمقراطية السليمة بين صيغة «الزحف المقدّس»، التي افترضت تنظيم الشعب بأكمله في زحف بقيادة الضباط، بعد تطهيرات مارس وإبريل 1954، وصيغة تحالف قوى الشعب العامل بعد تأميمات 1961، التي تفترض، على العكس، استمرار وجود رجعية متربّصة يجب تنظيم الصفوف لمواجهتها على مدى طويل.
أمّا الملمح الثالث والأخير، فهو استقلال حركة الضباط الأحرار عن كافّة القوى السياسية التي كانت قائمة آنذاك، سواء الموالية للنظام القديم أو المعادية له. لكنّها كانت أقرب إيديولوجيًّا للأخيرة، حيث تلقّى معظم أفراد الضباط الأحرار تربيّتهم السياسية تحت تأثير منظّماتها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وبصفة خاصّة منظّمات الإنتليجنسيا المتمرّدة السلطوية authoritarian (الإخوان المسلمين ومصر الفتاة والحزب الوطني ـ جناح فتحي رضوان)، فرجال تنظيم «حدتو» الماركسي في تنظيم الضباط الأحرار استُبعدوا في الفترة الأولى بعد تولّي السلطة. والواقع أنّ استقلال الضباط الأحرار التنظيمي هو الذي ميزهم عن كلّ التنظيمات السياسية الأخرى في الجيش، التي كانت فروعًا لتنظيمات سياسية مدنية. ويرصد طارق البشري أنّ اختلاف الميول السياسية للضباط جعلهم يلتقون على أهداف عامّة تحفظ لهم وحدتهم، كما تحفظ لهم استقلالهم التنظيمي والإيديولوجي. وفي عام 1961 شخّص لطفي الخولي حالة الاستقلال هذه كالآتي:
لمّا كانت ثورة الجيش لم تصدر عن حزب من الأحزاب السياسية، بل انطلقت تعبيرًا وتنفيذًا لإرادة مجموعة «الضبّاط الأحرار» بقيادة عبد الناصر، مستقلّة في حركتها عن جميع القوى السياسية والاجتماعية في المجتمع المنهار، فقد أقامت بالتالي دولة ذات سلطات مستقلّة استقلالًا ذاتيًّا عن القوى الاجتماعية والسياسية القائمة وقتذاك. وساعد على ذلك توازن القوى الاجتماعية والظروف الاستثنائية التي كانت تمرّ بها البلاد والعالم أجمع: [الحرب الباردة] في هذه المرحلة من التاريخ التي تميّزت بتعادل ميزان القوى [الدولي].
هذه السمة هي الأكثر أهمية في تقديري؛ لأنّها جامعة. فالاستقلال هذا يرجع من ناحية إلى طبيعة الانقلاب العسكري نفسه، باعتباره انقلاب مجموعة ضباط من الرتب الوسطى، غير تابعة سياسيًّا لأيّة قوى منظمة، سياسية أو اجتماعية، وميلهم للديكتاتورية بسبب استقلالهم هذا، وبالتالي عدم قدرتهم على الاعتماد على أيّة قوّة سياسية أو اجتماعية. وهي تفسّر أيضًا تقلّب سياسات الضباط في السلطة، بفعل ما وفّره هذا الاستقلال من مساحة واسعة للمناورة، من ناحية، ومشكلات سلطتهم التي دفعت لهذه التقلّبات من ناحية أخرى.