أنت هنا

قراءة كتاب الزحف المقدس

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الزحف المقدس

الزحف المقدس

كتاب "الزحف المقدس - مظاهرات التنحّي، وتشكّل عبادة ناصر"؛ يقول الكاتب والباحث شريف يونس، في مقدمة كتابه:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 10

لقد كانت لحظة مارس 1954 حاسمة في مسيرة الضباط نحو تأميم السلطة السياسية. ومن هنا كانت بسبب صراعيتها لحظة كاشفة عن الممكن والمتاح من مشروع الوصاية هذا. وكان من شأنها إجراء تحول جوهري في نمط شرعية النظام، من الوصاية الخالصة إلى الوصاية الشعبية، التي تعتبر أساس أو قاعدة بناء شعبية عبد الناصر لاحقًا.
ظلّت الفكرة هي أنّ التمثيل الصحيح لا يتحقّق بإرادة الشعب الديمقراطية، بل بفرض الوصاية عليه. لكن استجدّ هنا السعي إلى استدعاء الشعب وإدماجه، أو دعوته لإعلان ترحيبه بهذه الوصاية. فلمّا كانت الديكتاتورية العسكرية انتقالية ـ تربوية، كما أشار عبد الناصر، فإنّ مهمّتها تتضمّن أن يرضى الشعب بالوصيّ عليه، وأن يتشرّب، من خلال قبول «ديمقراطية» الحماية والتربية، قيم الضبّاط. بعبارة أخرى، في نمط التمثيل السياسي هذا، يتحوّل الممثِّل إلى معيار سياسي لسلوك الشعب، ولوعيه، ولإرادته السليمة. فالشعب يرتفع وعيه بنفسه بقدر ما يقبل فكرة أنّ حكم الضبّاط هو المعبّر الصحيح عن «دكتاتوريته».
كانت أزمة مارس هي اللحظة التي أعلن فيها الضبّاط أنّهم قد حصلوا على تفويض من «القاصر» بالوصاية عليه، أو أنّ الشعب مرحِّب بالوصاة وراضٍ بالتربية. كانت إضرابات بعض النقابات العمالية وعمال مديرية التحرير المنقولين بأتوبيسات والجماعات شبه العسكرية لهيئة التحرير قد هجمت على المظاهرات الديمقراطية وبعض المؤسّسات هاتفة: تسقط الحرّية، عاشت الثورة. وقد يقال إنّ كيفية الحصول هذه الشهادة يكشف عن احتقار الضبّاط العميق للشعب القاصر ولفكرة الرأي العام نفسها. فقد لجئوا إلى الرشوة والخداع بشراء استعراض من الإضرابات العمالية المعزّزة بالعنف المباشر. ومع ذلك، كان الحرص على استدعاء الشعب القاصر ليقول كلمته، ولو بصورة مزيفة، تعني إدخال تعديل جوهري على علاقة الوصاية. فالعمل نفسه، بصرف النظر عن كيفية إجرائه، يعني أنّ شرعية النظام أصبحت تعتمد على القول برضا الشعب عن نظام الوصاية. ويعني بالتالي دعوة الشعب للاندماج في «الزحف المقدّس»، أي نظام الوصاية، بوصفه اختياره الخاصّ. لذلك كان إعلان مجلس الثورة بمجرّد تحقّق انتصار مارس يقول: «لن يَسمح الشعب... بأن يضلَّل كفاحه» (29 مارس 1954). فالشعب، لا الضبّاط كما في خطاب 9 مارس، هو الذي لن يسمح.
يتمثّل التناقض في هذا التعديل في القول في الوقت نفسه بالوصاية على الشعب بسبب عجزه، والقول بأنّ هذه الوصاية تحقّقت بموافقة القاصر نفسه، بما يدلّ على قدر من «النضج» النسبي له بمعايير الضباط. وبالتالي أصبح الوضع مهيّأً للقيام بتربية الشعب. ووفقًا لهذا الوضع تصبح الديكتاتورية هي نفسها الحرّية. فعلى حدّ قول عبد الناصر: «يجب ألّا نمكّن أعداء الحرية من التجارة باسم الحرّية... والتضليل باسم الحرّية. سنسلب حرّية أعداء الحرّية... وبهذا يا إخواني نستطيع أن نقول للشعب إنّنا... حقّقنا لك الحرّية» (نوفمبر 1954). بطبيعة الحال ليست الحرّية هنا هي الحريات المدنية والسياسية، ولكن عملية تحرير، تتلخّص في تحرير الجموع من الخونة، بمعنى عزلهم عن التأثر بهذه النخب التي اعتُبرت معادية لهم. فحرّية الشعب تتحقّق بنزع الحرّية عن أعداء الشعب، بالتطهير، وفقًا لشعار مقفى شهير أعلنه عبد الناصر في المؤتمر التعاوني الثاني عام 1956: «كلّ الحرّية للشعب، ولا حرّية لأعداء الشعب» (1956).
بعد أسبوعين من الأحداث تبلورت الصيغة الجديدة بشكل كبير، وقيلت مرارًا وتكرارًا. مثلًا: «من هذا اليوم انتقلت ملكية الثورة من الجيش إلى المواطنين جميعًا، ولم تعد ثورة الجيش أو الضبّاط الأحرار، بل إنّها الآن ثورة الشعب كلّه» (إبريل 1954). ليست المسألة فقط أنّ الشعب السلبي أمين على الثورة وسيواصل الاتحاد والتعاون، بل تسلم الشعب القائم، بقدر ما يظلّ سلبيًّا، الثورة رسميًّا. ومصداقًا لهذا الكلام أُجرى احتفال لنقل السلطة لذلك الشعب. ففي العيد الثاني للثورة، بعد أقلّ من أربعة أشهر من انتهاء أزمة مارس، أقام الجيش احتفالًا تحرّكت فيه مواكب الشعلة «من القيادة العامّة للقوّات المسلّحة لتلتقي بالشعب في ميدان الجمهورية»، وعلّق مندوب الأهرام موضحًا المغزى: «هذا هو المعنى الذي أرادته الثورة [:الضبّاط] أن يستقرّ في أذهان الشعب أمس، ليعرف أنّ هذه الثورة ثورته... فقد غدت مصر أمّة واحدة، بل جيشًا واحدًا. كلّه يسير في ركب الثورة» (يوليو 1954). على هذا النحو «تسلم» الشعب، بصفته جمهرة محتشدة في مهرجان، «سلطة» كرنفالية، بغير أيّة مؤسّسات، فلم يوجد آنذاك ولو برلمان صوري. فأصبح هذا الشعب المنحلّ إلى عناصره الأولية، أيّ إلى أفراد تقتادهم أجهزة الدولة للتجمهر بوسائل شتّى، هو المفهوم الواقعي للشعب، أو الشعب الجديد الذي تربيه السلطة.
وفي ظلّ التعقيم السياسي الناتج، أصبح بمقدور عبد الناصر أن يعلن ثقته، في هذه الحدود، بالشعب. فبمناسبة الإفراج عن بعض المعتقلين في مايو 1956، أعلن عبد الناصر:
هذه الثورة اللي هي بتمثّل هذا الشعب بتعتقد أنّ الشعب... لن يُضَلَّل كما ضُلِّل في الماضي... الثورة حينما تتصرّف هذا التصرّف [:الإفراج عن المعتقلين] بتعتقد أنّ أهدافها استقرّت في قلب كلّ مواطن... وإنّ الشعب فعلًا زيّ ما كنّا عاوزينه [: كما أردناه أن يكون] في أول الثورة، إنّه يجتمع في كتل متراصّة وراء هذه الأهداف ليتبع الطليعة ويحقّق هذه الأهداف... هذا قد تحقّق.

الصفحات