كتاب "الزحف المقدس - مظاهرات التنحّي، وتشكّل عبادة ناصر"؛ يقول الكاتب والباحث شريف يونس، في مقدمة كتابه:
أنت هنا
قراءة كتاب الزحف المقدس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الزحف المقدس
قد يقال هنا إنّ علي صبري، الذي تولّى شئون الاتحاد الاشتراكي منذ 1965، والذي بدأ حياته السياسية سكرتيرًا لعبد الناصر، ثمّ ممثّلًا له في العديد من المناصب، بما فيها رئاسة الوزارة، قبل تولّيه أمانة الاتحاد، كان على الأرجح من أشدِّ الأطراف حرصًا على عدم الإخلال بالتوازنات القائمة، وكان يملك تجربة «الاستدعاء السياسي» لتدبير المظاهرات. لكن في ضوء الاعتبارات السابقة، كان أقصى ما يستطيعه أن يستخدم بعض الدوائر الضيّقة الموثوق بها من رجاله، في الاتحاد أو في المنظّمات الأمنية شبه المدنية، كالدفاع المدني، في الإيحاء للتجمّعات العفوية برفع شعارات مناسبة، أو تجهيز بعض اللافتات، أو توفير وسائل النقل، أو بتحريض التجمعات التي ظهرت بالفعل. وهذا كلّه، أيًّا كان حجمه ـ والأرجح أنّه متواضع ـ لا ينفي عن مظاهرات 9 و10 يونيو عفويّتها وتلقائيّتها، بما في ذلك اتجاهها العامّ لاستبقاء عبد الناصر في السلطة.
من جهة أخرى، تشير الدلائل إلى أنّ المصريين لم يدركوا وقتها الأبعاد الكاملة للهزيمة. كانت الهزيمة، على عمقها، بعيدة عن أن تمسّ مباشرة وفورًا حياة معظم المصريين؛ فبرغم أنّ البلاد قد فقدت مساحة معتبرة من رقعتها، فإنّ هذه الرقعة بالذات كانت قليلة السكان، وبعيدة عن مركز العمران الأساسي، الوادي والدلتا، وبعيدة عن القاهرة، مركز السلطة الذي لم يُمسّ. ولم تبدأ حتّى مدن القناة في التعرّض لمتاعب كُبرى في الأيام الأولى للحرب وحتّى وقف إطلاق النار. وهكذا لم تعانِ القاهرة، ولا المدن الأخرى، ما عانته برلين في نهاية الحرب العالمية الثانية، مثلًا، حين احتلّتها بشكل مباشر جيوش أممٍ أخرى. كما كانت الحرب قصيرة وخاطفة بما حال دون الشعور بآثارها في الأيام القليلة الأولى؛ فلم تشهد خسائر متوالية لشهور وسنوات من القتلى والجرحى، بكلّ ما يصحب الحروب الطويلة من ضغوط اقتصادية ونفسية عنيفة يومية وملموسة، على نمط الحربين العالميتين مثلًا. ولم يبدأ الجنود المهزومون في التدفّق على البلاد إلّا قبيل التنحّي. لهذا كلّه، يمكننا فهم أنّ الهزيمة كانت فور وقوعها فكرة أكثر منها شيئًا ملموسًا معاشًا أو خبرة تاريخية متراكمة، عند معظم السكان.
أكثر من ذلك أنّ أبعاد الهزيمة (حجم الخسائر في الأرض المصرية والعربية والمعدّات والقتلى) لم تكن معروفة بعد. لم يكن معروفًا أنّ نتيجة حرب الأيام الخمسة حتّى خطاب التنحّي كانت سقوط سيناء بالكامل، وقطاع غزة طبعًا، ناهيك عن الضفّة الغربية والجولان. كانت الهزيمة إذن تمثّل لمعظم السكان خبرًا كارثيًّا، لكن غير واضح الأبعاد، عرفوه من الإذاعات الأجنبية، أو ألمحت إليه الصحف ووسائل الإعلام قبيل التنحّي، لا حياة مُعاشة. ومع ذلك، كان خبر الهزيمة، التي تأكّدت بخطاب التنحّي، ثقيلًا مذلًّا مهينًا، خاصّة في ضوء الأحلام العريضة التي روّجها النظام وأجهزة دعايته، بما يصل إلى حدّ الزعم الدعائي الفارغ والكاذب عن عمد بالقدرة على دخول تلّ أبيب، عاصمة إسرائيل آنذاك.
برغم ثقل الهزيمة، لم يكن النظام مهدّدًا جدّيًّا . لم تقم ثورة على النظام تعوّض الهزيمة مثلما جرى في باريس حين اقتربت الجيوش الألمانية منها بعد هزيمة سيدان عام 1870، أو برلين بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تحلّ سريعًا حالة من النشوة محلّ حالة الإحباط العميق ـ فيما يقول دارس لـ«ثقافة الهزيمة» في حروب أوربّية مختلفة ـ بسبب سقوط نظام يُعتبر مصدر أشكال مختلفة من المعاناة وعلى رأسها الهزيمة ذاتها، خاصّة إذا شاركت جموع عريضة في الثورة. في الواقع أدّى الإفقار السياسي الشامل والمنهجي الذي أجراه النظام على مختلف الأصعدة، التنظيمية والإعلامية والفكرية، وقمعه أو إلحاقه لمختلف قوى المجتمع المدني التي أُخضعت بالكامل، وحالة التوجّس العامّة التي خلقتها هيمنة أجهزة الأمن؛ أدّى هذا كلّه إلى عدم وجود أيّة قوى سياسية، أو حتّى بذور معقولة لها، في الساحة، ولا كانت المعسكرات الإيديولوجية المتمايزة التي سُمح لها بالحركة في إطار الولاء للنظام متمركزة في منظّمات مستقلّة من أيّ نوع. وبالتالي لم توجد أيّة قوّة سياسية أو اجتماعية منظّمة تستطيع أن تستخلص شيئًا مختلفًا من الهزيمة وتتحرّك للمطالبة بتغيير النظام القائم.
لم يكن النظام مهدّدًا إذن. وحتّى إسرائيل لم تكن تتوقّع أن تتوِّج انتصارها بتغيير النظام، بل باستسلامه. ولم يكن من شأن خروج عبد الناصر من السلطة ظهور نظام جديد.