أنت هنا

قراءة كتاب شفرة الموهبة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
شفرة الموهبة

شفرة الموهبة

كتاب " شفرة الموهبة " ، تأليف دانيال كويل ترجمه إلى العربية تامر فتحي ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 7

لقد كان سؤالا جيدًا ذلك، الذي وجَّهه روزفلت لمشروع تدريب الطيارين كله. التدريب الأوَّلي للطيارين بُني على اعتقاد راسخ وهو أن الطيارين الجيدين يولدون هكذا ولا تتم صناعتهم. أغلب البرامج اتبعت الإجراء نفسه: يأخذ المعلم الطالب المحتمل على متن الطائرة ويقوم بتنفيذ سلسلة من التحليقات والدورانات. فإن لم يصب الطالب بالتعب، يتم اعتباره على أنه ذو قدرة ليصبح طيارًا، وتدريجيا يسمح له، بعد عدة أسابيع في المدرسة الأساسية، بالقيادة. تعلم المتدربون من خلال تدريبات التحرك البطيء على الأرض، وحَجْلة البطريق بطائرات قصيرة ذات أجنحة، وإما أن يطيروا ويحجلوا. (وكان لقب ليندي المحظوظ(7) مستحقًا بجدارة). إلا أن النظام لم يعمل جيدًا. أول المعدلات المفجعة في مدارس الطيران الحربية اقتربت من 25 في المائة، ففي عام 1912 مات ثمانية طيارين من الجيش الأمريكي من أصل أربعة عشر طيارًا في حوادث تحطم. ومع حلول عام 1934 تحسنت التقنيات والتكنولوجيا في حين ظل التدريب بدائيًّا. نكسة البريد الجوي، ومشكلة روزفلت التي سرعان ما صارت معروفة، أثارت بحدة السؤال التالي: هل هناك طريقة أفضل لتعلم الطيران؟

جاءت الإجابة من مصدر غير متوقع: إيدوين ألبرت لينك، الصغير، ابن صانع بيانو وأرغون من مدينة بينجامتون بولاية نيويورك، الذي تربّى وهو يعمل في مصنع أبيه. كان لينك، النحيل، ذو الأنف المنقاري، والعنيد بشكل أسطوري، سمكريًا بالسليقة. وحين كان في السادسة عشر من عمره أُغرم بالطيران، وتلقى درسًا بقيمة 50 دولارًا على يد سيدني شابلن (الأخ غير الشقيق لنجم السينما). "بالنسبة لأفضل جزء في تلك الساعة هو أننا قمنا بالتحليق والدوران وملأنا كل شيء على مرمى البصر ضجيجًا". قال لينك فيما بعد متذكرًا "والحمد لله لم أتعب، لكن حين هبطنا لم ألمس عجلة القيادة مطلقًا. ساعتها فكرت: إنها لطريقة لعينة لتعليم أحد ما الطيران".

زاد افتتان لينك. وبدأ يحوم حول الطيارين الاستعراضيين يستجدي منهم الدروس. لكن أباه لم يُقدِّر اهتمامه بالطيران، وعلى الفور فصله من مصنع الأرغون بمجرد اكتشافه للأمر. إلا أن لينك ظل على ما فيه، وفي نهاية المطاف اشترى طائرة ماركة سيسنا ذات الأربعة مقاعد. وفي ذات الوقت ظل عقله السمكري يقلب فكرة تطوير تدريب الطيارين. في عام 1927، أي بعد سبع سنوات من درسه الأول مع شابلن، مضى لينك للعمل. استعار من مصنع الأرغون مضخات هوائية، وبنى جهازًا كبس فيه عناصر الطائرة الأولية في مساحة تزيد قليلًا على مساحة حوض الاستحمام. وبرزت من الجهاز أجنحة قصيرة وكبيرة قادرة على الإمساك بأي شيء، وذيل صغير، ولوحة قيادة، وموتور كهربائي جعل الجهاز يدوِّي ويهتز وينحرف استجابة لقيادة الطيار. وضوء صغير يُضيء عندما يرتكب الطيار خطأً. وأطلق عليه لينك اسم "طائرة لينك التدريبية لتعليم الطيران" ووضع إعلانًا: إنه يعلم الطيران العادي والطيران الآلي، وهو القدرة على الطيران دون رؤية عبر الضباب والعواصف مع الاعتماد على المعايير القياسية وحدها. وأنه سيعلم الطيارين الطيران في نصف الوقت المعتاد للتدريب مقابل مبلغ تافه من المال.

أن نقول إن العالم أغفل الطرف عن جهاز لينك التدريبي فلن يكون ذلك دقيقًا. الحقيقة كانت، أن العالم نظر إلى الأمر برمته وأصدر كلمة لم تكن حاسمة ومدوية. لم يظهر الاهتمام بجهاز لينك على أي شخص اتصل به، لا الأكاديميات العسكرية ولا مدارس الطيران الخاصة ولا حتى طياري العروض الاستعراضية. ففي النهاية كيف يمكنك تعلم الطيران في لعبة أطفال؟ ولم يكن أقل من دائرة تسجيل براءات الاختراع الأمريكية، أن أعلنت أن جهاز لينك هو "جهاز للتسلية مربح وجديد". وهكذا بدا أن الجهاز أصبح مخصصًا لذلك. فبينما باع لينك من طائرته التدريبية خمسين قطعة لحدائق الملاهي والممرات الترفيهية ذات الألعاب التي تعمل بالعملات المعدنية، وصلت قطعتان لأماكن تدريب حقيقية: واحدة باعها لمهبط طائرات تابع للأسطول في مدينة بينساكولا، بولاية فلوريدا، والأخرى أقرضها لوحدة نيوجيرسي للحرس الوطني في مدينة نيو أرك. ومع أوائل الثلاثينيات انحدرت الحال بلينك، فصار يسحب إحدى طائراته التدريبية على شاحنة مسطحة إلى ساحات المقاطعة نظير خمسة وعشرين سنتًا للركوبة الواحدة.

وحين حلت نكسة البريد الجوي في شتاء 1934، أصاب اليأس، مع ذلك، مجموعة من قادة سلاح الطيران. كاسي جونز، طيار حربي محنك كان قد درب العديد من طياري الجيش، تذكر طائرة لينك التدريبية وأقنع مجموعة من ضباط الفيلق الجوي بإعادة النظر في الأمر. مع بداية شهر مارس، تم استدعاء لينك ليطير من مدينته كورتلاند بولاية نيويورك إلى مدينة نيو أرك، ليشرح كيفية عمل طائرته التدريبية التي أقرضها للحرس الوطني. كان اليوم المتفق عليه غائمًا وانعدمت فيه الرؤية مع رياح مؤذية ومطر. وخمن قادة الفيلق الجوي، بعد أن صاروا على دراية بالنتائج الممكن حدوثها في هذه المخاطر، أنه لا يمكن لطيار، مهما كان شجاعًا أو ماهرًا، الطيران في مثل هذا الطقس. كانوا على وشك مغادرة الساحة حين تناهى إلى مسامعهم ما يشبه أزيز طائرة في السماء بين السحب، تهبط بثبات. ثم ظهرت طائرة لينك كما لو أنها شبح تجسد على مقربة بضعة أقدام أعلى مهبط الطائرات، ثم قَبَّلت الأرض وهي تهبط هبوطًا متقنًا وزحفت على المهبط حتى وصلت إلى الجنرالات المندهشين. صاحبنا النحيل لم يكن يشبه تشارلز ليندبرج، لكنه حلق مثله تمامًا، وتعلم ذلك على آلة، ليس أكثر. ثم شرع لينك في شرح عمل طائرته التدريبية، في واحدة من أولى الحالات المسجلة التي تغلبت فيها قوة الاستذكار النظري على التقاليد العسكرية، وفهم الضباط إمكاناتها. وطلب الجنرالات أول شحنة من طائرات لينك التدريبية. وبعد مُضِيّ سبع سنوات، بدأت الحرب العالمية الثانية، ومعها تنامت الحاجة إلى تحويل آلاف الشباب غير المدرّب إلى طيارين بأسرع وأأمن وسيلة ممكنة. تلك الحاجة لبتِّها عشرة آلاف طائرة من طائرات لينك التدريبية، ومع نهاية الحرب، سجل نصف مليون طيار ملايين الساعات داخل ما أطلقوا عليه بإعزاز "الصندوق الأزرق(8)" (9). وفي عام 1947 أصبح الفيلق الجوي الأمريكي القوات الجوية الأمريكية، ومضى لينك في بناء أجهزة محاكاة لطائرات نفاثة وقاذفات قنابل ونموذج لمركبة قمرية لبرنامج أبوللو للفضاء.

عملت طائرة إيدوين لينك التدريبية جيدًا لذات السبب الذي جعلك تحرز درجات أفضل بنسبة 300 في المائة في اختبار بيورك للكلمات الناقصة. لقد أتاحت طائرة لينك التدريبية للطيارين أن يتدربوا على نحو أكثر عمقًا، أن يتوقفوا ويجتهدوا ويرتكبوا الأخطاء ويتعلموا منها. ففي غضون بضع ساعات على طائرة لينك التدريبية، تمكن الطيار من «الإقلاع» و»الهبوط» لعشرات المرات على الآلات. بإمكانه القيادة، ثم فقدان التحكم في القيادة، ثم استعادتها، وهو يقضي الساعات في المنطقة المحببة له، يعمل بأقصى قدراته وبطرق لم يكن بوسعه المخاطرة بعملها في طائرة حقيقية. طيارو الفيلق الجوي الذين تدربوا على طائرات لينك التدريبية ليسوا أشجع أو أذكى ممن تحطمت بهم طائراتهم. إنهم ببساطة أُتيحت لهم الفرصة للتدرب على نحو أكثر عمقًا.

فكرة التدريب العميق هذه تنمي الحس المثالي في التدرب للوظائف الخطيرة مثل الطيارين المقاتلين ورواد الفضاء. وتصبح أكثر إثارة مع ذلك حين نطبقها على أنواع أخرى من المهارات. على سبيل المثال مثل مهارات لاعبي الكرة البرازيليين.

الصفحات