أنت هنا

قراءة كتاب شفرة الموهبة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
شفرة الموهبة

شفرة الموهبة

كتاب " شفرة الموهبة " ، تأليف دانيال كويل ترجمه إلى العربية تامر فتحي ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 4

الباب الأول: التدريب العميق

1

المنطقة المحببة

ستصبح بارعًا من خلال أخطائك

مثل ألماني

عشش هارفارد

في ديسمبر 2006، بدأتُ في زيارة أماكن صغيرة أفرزت قامات من الموهبة بحجم قمة إفرست(3). بدأتْ رحلتي من ملعب تنس آيل للسقوط في موسكو، ثم قادتني على مدار الأربعة عشر شهرًا، التي تلت ذلك، إلى ملعب كرة قدم في ساو بولو بالبرازيل، وستديو صوتيات في دالاس بتكساس، ومدرسة بوسط مدينة سان جوزيه بكاليفورنيا، وأكاديمية موسيقية متهالكة في جبال أديرونداك بولاية نيويورك، وإحدى جزر الكاريبي المهووسة بالبيسبول، وحفنة من أماكن أخرى صغيرة ومتواضعة جدًا، لكنها ذات إنجاز عملاق لدرجة أن صديقًا لقَّبها بـ"عشش هارفارد".

الشروع في الرحلة عرّضني لبعض الإشكاليات، أوْلاها كيف أوضح الأمر لزوجتي وأربعة أطفال صغار على نحو منطقي (أو قل: غير أهوج) قدر المستطاع. لذا قررتُ أن أصيغ الرحلة وكأنها إحدى البعثات الكبرى من ذلك النوع الذي قام به علماء الطبيعة في القرن التاسع عشر. وعقدتُ مقارنة جادة بين رحلتي ورحلة تشارلز داروين على متن السفينة بيجل، وشرحتُ بمهارة كيف أن أماكن صغيرة ومنعزلة تقدمِّ عيّنات وقوى أكثر، تشبه نوعًا ما علب بتري(4) لزراعة الخلايا. هذا الشرح بدا أنه قد أدى الغرض، على الأقل لفترة.

"بابا ذاهب للبحث عن كنز"، هكذا سمعتُ بالمصادفة ابنتي كاتي، ذات العشر سنوات تشرح بصبر لأخواتها الصغار: "أتعرفون تمامًا كما في حفلة عيد الميلاد".

بحث عن كنز وعيد ميلاد، في الحقيقة لم يكن ذلك ببعيدٍ عن المقصود. فالمكامن التسعة التي زُرتُها يكاد لا يكون بينها أي قاسم مشترك اللهم إلا التشكك البهيج في وجودها. فكل منها يستحيل وجوده إحصائيًا، كفأر لم يكن يزأر فقط، بل إنه استحوذ بطريقة ما على سلطة الحكم في الغابة. لكن كيف؟

أول مفتاح للغز جاء على هيئة نموذج غير متوقع. فحين شرعتُ في زيارة مكامن الموهبة، توقعتُ أن يصيبني الانبهار، وأن أشهد سرعة وقوة ورشاقة على مستوى عالمي. لم تخب تلك التوقعات، بل إنها فاقت المتوقع، طيلة منتصف المدة. فعلى مدار نصف المدة هذه، كان الوجود في مكمن للموهبة يشبه الوقوف وسط قطيع من غزلان مندفعة: حيث كل شيء يتحرك على نحو أسرع وأرشق مما هو عليه في الحياة اليومية. (فأنت لم يُمتحن إحساسك بذاتك العليا بعد، إلا حين يشفق عليك طفل في الثامنة من العمر، وأنت في ملعب تنس).

لكن ذلك كان طيلة نصف المدة. أما طيلة النصف الآخر للمدة، فلقد شاهدتُ شيئًا مختلفًا جدًا: لحظات من كفاح بطيءٍ متقطع، أو بالأحرى، شيء يشبه ما رأيتُه في فيديو كلاريسة. كما لو أن قطيع الغزلان المندفعة صادف منحدرًا مغطى بالثلج. فكبحوا جماحهم، فتوقفوا، ونظروا، ثم فكروا بعناية قبل اتخاذ كل خطوة. أصبح إحراز التقدم مسألة إخفاقات صغيرة، أو نموذجًا منظمًا من أفعال خرقاء، وشيئًا آخر أيضًا: ألا وهو تعبير وجه واحد. فنظرتهم المتوترة الحادة تجعلهم أشبه ما يكون (وأعلم أن هذا يبدو غريبًا) بإطلالة كلينت إيستوود المتحيرة.

لنتعرف إلى برونيو. هو في الحادي عشر من عمره، ويشتغل على حركة جديدة في كرة القدم في ملعب إسمنتي في مدينة ساو بولو بالبرازيل. إنه يتحرك ببطء، يستشعر تدحرج الكرة تحت فردة حذائه الرياضي الرخيص. إنه يحاول أن يتعلم حركة الإليستيكو، وهي مناورة بالكرة يقوم فيها بدفع الكرة برفق بوجه القدم الخارجي، ثم يلف قدمه حول الكرة بسرعة ليضربها بمشط قدم في الاتجاه المعاكس. إن تمت الحركة بشكل صحيح فهي تعطى للمشاهد انطباعًا بأن الكرة مربوطة برباط مطاطي. في أول مرة نشاهد برونيو يحاول أداء الحركة ويفشل ثم يتوقف ويفكر. يكرر فعلها ولكن على نحو أبطأ، ويفشل مرة أخرى، وتندفع الكرة بعيدًا. يتوقف ويفكر ثانية. يفعلها ثانية ولكن على نحو أكثر بطئًا، مُفككًا الحركة إلى مكوناتها، هذه وهذه وتلك. وجهه متوتر وعيناه مُرَكَزتان جدًا، ويبدو أنهما تنظران لمكان آخر. ثم ينجح الأمر: ها هو يبدأ في التمكن من الحركة.

ولنتعرف إلى جيني. إنها في الرابعة والعشرين من عمرها بستديو صوتيات ضيق في دالاس، وتعمل مع الكورس على أغنية "الوقت ينفد". إنها تحاول الإلمام بالخاتمة الكبيرة، التي تُحول فيها كلمة وقت إلى شلال من النغمات. إنها تحاول وتخفق بشدة، تتوقف وتفكر ثم تغنيها ثانية بسرعة أقل جدًا. في كل مرة تنسى فيها نغمة تتوقف وترجع للبداية أو للموضع الذي نسيته. جيني تغني وتتوقف، وتغني وتتوقف. وفجأة تتمكن من أداء الخاتمة. وتستقر المقاطع في أماكنها. وخلال المرة السادسة، تغني جيني الميزان الموسيقي بإتقان تام.

الصفحات