أنت هنا

قراءة كتاب شفرة الموهبة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
شفرة الموهبة

شفرة الموهبة

كتاب " شفرة الموهبة " ، تأليف دانيال كويل ترجمه إلى العربية تامر فتحي ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 8

سلاح البرازيل السري

مثل كثير من مشجعي الرياضة حول العالم، كان المدرّب سيمون كليفورد مبهورًا بمهارات لاعبي كرة القدم البرازيليين الخارقة. إلا أنه، وخلافًا لأغلب المشجعين، قرر أن يذهب للبرازيل ليرى إن كان بمقدوره أن يكتشف كيف طوروا تلك المهارات. كانت هذه مبادرة طموحةً على نحو غير عادي من جانب كليفورد، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه اكتسب خبراته التدريبية في مدرسة كاثوليكية ابتدائية بمدينة ليدز، التي لم تكن مكمنًا لكرة القدم، بإنجلترا. مع أن كليفورد ليس من النوع الذي قد تطلق عليه عاديًا. فهو طويل القامة وسيم بحيوية ويشع بذلك النوع من الثقة الجذابة المضادة للرصاص التى عادةً ما تصاحب التَبشِيريّين والأباطرة. (في أوائل عشرينياته أُصيب كليفورد إصابة بالغة في حادث كرة قدم مريع ويعاني من تلف في عضو داخلي، استئصال كلى وربما لذلك يقترب يومًا فيوم من الحماسة المفرطة). في صيف 1997، عندما كان في السادسة والعشرين من عمره، اقترض كليفورد مبلغ ثمانية آلاف دولار من نقابة المدرّسين التابع لها، وبدأ رحلته للبرازيل يحمل حقيبة ظهر، كاميرا فيديو ودفترًا مليئًا بأرقام هواتف اِحتال لأخذها من لاعب برازيلي كان قد التقى به.

وهناك قضى كليفورد أغلب وقته في استكشاف ساحات ساو بولو المحتشدة، ينام ليلًا في أماكن للمبيت تعج بالصراصير، ويدوِّن بالنهار ملاحظاته. رأى أشياءً توقعها: الشغف، المنهج، ومراكز التدريب المُنظمة لحد كبير، والدورات التدريبية الطويلة. (يسجل اللاعبون المراهقون في أكاديميات كرة القدم البرازيلية عشرين ساعة تدريبية في الأسبوع، مقارنة بخمس ساعات في الأسبوع لنظرائهم البريطانيين). رأى فقر الأحياء الشعبية المُدْقِع، والإحباط في أعين اللاعبين.

لكن كليفورد رأى أيضًا شيئًا لم يتوقعه: لعبة غريبة. تشبه كرة القدم إذا تم لعبها داخل كابينة تليفون، وحقنها بالأمفيتامينات. كرتُها كانت نصف الحجم التقليدي وأثقل مرتين، فكانت بالكاد تنط. ولم يكن اللاعبون يتدربون، على مساحة واسعة من النجيلة، ولكن على رُقع بحجم ملعب كرة سلة لها أرضية من الإسمنت، الخشب، أو التراب. وبدلًا من الأحد عشر لاعبًا يوجد على كل جانب خمسة أو ستة لاعبين. في إيقاعها وسرعتها الجنونية، كانت اللعبة أقرب ما تكون للبيسبول أو الهوكي أكثر منها لكرة القدم: فقد كانت تتألف من سلسلة من التمريرات السريعة والمحكمة مع حركة لا تتوقف من المرمى إلى المرمى. وكانت تدعى: futebol de salao، وتعني بالبرتغالية «كرة قدم الغرفة». وتجسيدها العصري يطلق عليه الكرة الخماسية.

«كان من الواضح لي أن هذا هو المكان الذي ولدت فيه المواهب البرازيلية»، قال كليفورد. «لقد كان الأمر بمثابة العثور على الحلقة المفقودة».

تم ابتكار الكرة الخماسية في عام 1930، كبديل للتدريب في يوم ممطر عن طريق مدرّب من الأوروجواي. وعلى الفور وضع البرازيليون أيديهم عليها وسنوا أولى قواعدها في عام 1936. ومنذ ذلك الحين انتشرت اللعبةكالفيروس، وبخاصة في مدن البرازيل المزدحمة، وسرعان ما احتلت مكانة مميزة في الثقافة البرازيلية الرياضية. أمم كثيرة لعبت الكرة الخماسية، لكن البرازيل أصابها الهوس باللعبة بشكل فريد، جزئيًا لأن اللعبة يمكن لعبها في أي مكان (وليست هذه بميزة صغيرة في بلد تندر فيه الملاعب الخضراء). لقد تنامت كرة القدم الخماسية وسيطرت على شغف الأطفال البرازيليين مثلما سيطرت كرة سلة الشوارع على شغف أطفال الأحياء القديمة في أمريكا. تحتل البرازيل عرش هذه الرياضة في شكلها المنظم، فلقد فازت بـ35 مسابقة دولية من أصل 38، بحسب ما ورد عن فيسنتي فيجيريدو في كتابه «تاريخ الكرة الخماسية». لكن ذلك الرقم يشير فقط إلى الوقت والجهد والطاقة التي تصبها البرازيل في هذه اللعبة المحلية الغريبة. وكما كتب ألكس بيلوس، صاحب كتاب «كرة القدم على الطريقة البرازيلية» فإن كرة القدم الخماسية تعتبر «حاضنة الروح البرازيلية».

وانعكس الاحتضان في سير اللاعبين. فمن بيليه وصاعدًا، كل لاعب برازيلي كبير كان قد لعب فعليًّا الكرة الخماسية في صغره، في الحي أولًا وبعد ذلك في أكاديميات كرة القدم في البرازيل، حيث يكرس من هم في السابعة إلى نحو اثني عشر عامًا ثلاثة أيام في الأسبوع بشكل مميز للكرة الخماسية. يقضي اللاعب المميز البرازيلي آلاف الساعات في اللعبة. جونينيو العظيم، على سبيل المثال، قال إنه لم يركل كرة كاملة الحجم على النجيلة إلى أن صار في الرابعة عشر من عمره. روبينهو إلى أن وصل للثانية عشرة من عمره كان قد قضى نصف وقته في التدريب في لعب الكرة الخماسية(10).

مثلما يميز صانع النبيذ عصرة العنب الرائعة، بوسع خبير كالدكتور إيميليو ميراندا، أستاذ كرة القدم بجامعة ساو بولو، أن يميز وصلات كرة الخماسية في الحيل الكروية البرازيلية. ماذا عن حركة الإليستيكو التي اشتهر بها رونالدينهو، دفع الكرة وسحبها كاليويو؟ لقد تم ابتكارها في لعبة الكرة الخماسية. وماذا عن هدف رونالدو الذي سجله بطرف قدمه في كأس العالم 2002؟ إنها الكرة الخماسية مرة أخرى. وحركات مثل الديسبيرو والباريت والفيزلينة؟ كلها جاءت من الكرة الخماسية. عندما أخبرت ميراندا أنني كنت أتصور أن البرازيليين بنوا مهاراتهم عن طريق لعب كرة القدم على الشاطئ، ضحك. "يطير الصحفيون إلى هنا ويذهبون إلى الشاطئ، يلتقطون الصور ويكتبون القصص. لكن اللاعبين العظام لا يأتون من الشاطئ بل من ملاعب الكرة الخماسية".

سبب واحد يكمن في المعادلة الرياضية. فلاعبو الكرة الخماسية يلمسون الكرة أكثر بكثير من لاعبي كرة القدم، أكثر من ست مرات في الدقيقة الواحدة بحسب دراسة قامت بها جامعة لفيربول. فالكرة الأصغر حجمًا والأثقل وزنًا تتطلب وتمنح أيضا مهارات دقيقة للتعامل مع الكرة، فكما يوضح المدرّبون فأنت لا يمكنك الخروج ببساطة من حيز ضيق بركل الكرة ناحية أرجاء الملعب. التمريرات الحادة هي السمة الغالبة: فاللعبة كلها تتعلق بالبحث عن زوايا ومساحات والعمل بسرعة على توفيقات مع اللاعبين الآخرين. التحكم في الكرة والرؤية أمران حاسمان، لذا حين يلعب لاعبو الكرة الخماسية كرة القدم في حجمها الكامل، فإنهم يشعرون كما لو أن لديهم أفدنة من المساحات المفتوحة للعمل فيها. وعندما شاهدتُ مباريات احترافية في ملاعب مكشوفة في ساو بولو بصحبة دكتور ميراندا، كان يشير إلى اللاعبين الذين كانوا يلعبون كرة خماسية، وكان بوسعه قوْل ذلك من طريقة احتفاظهم بالكرة. لم يهتموا لمدى اقتراب الخصم منهم. وكما لخص دكتور ميراندا الأمر، "ضيق الوقت والمساحة يساوي مهارات أفضل. الكرة الخماسية هي مختبرنا الوطني للارتجال".

بمعنى آخر، البرازيل مختلفة عن سائر العالم لأنها توظف لديها البديل الرياضي لطائرة لينك التدريبية. الكرة الخماسية ضغطت مهارات كرة القدم الرئيسية داخل صندوق صغير، إنها تضع اللاعبين داخل منطقة التدريب العميق، يصنعون الأخطاء ويصححونها، يوجدون حلولا على الدوام لمشكلات حية. اللاعبون الذين يلمسون الكرة 600 في المائة أكثر غالبًا ما يتعلمون، دون إدراك ذلك، أسرع مما لو كانوا في ساحة تتواثب فيها الكرة في مباراة خارجية (حيث يجري اللاعبون يصاحبهم، في بالي على الأقل، شريط صوتي لكلاريسة وهي تزمِّر معزوفة "الدانوب الأزرق").

للتوضيح، الكرة الخماسية ليست هي السبب الوحيد لعظمة الكرة البرازيلية. الأسباب الأخرى التي غالبًا ما يتم التنويه بها –المناخ والشغف بالكرة والفقر– تهم بالفعل. لكن الكرة الخماسية هي الرافعة التي تنقل من خلالها العوامل الأخرى مفعولها.

عندما رأى سيمون كليفورد الكرة الخماسية، تحمس جدًا. عاد إلى بلده، ترك مهنة التدريس، وأسس الاتحاد الدولي للكرة الخماسيةفي غرفة شاغرة في منزله، وطور برنامجًا لكرة القدم لطلبة المدارس الابتدائية والثانوية وسمّاه مدرسة الكرة البرازيلية. ونظم سلسلة مدروسة من التدريبات ترتكز على حركات الكرة الخماسية. ولقد شرع لاعبوه، وأغلبهم جاءوا من مناطق فقيرة وصعبة بمدينة ليدز، في محاكاة حركات زيكو ورونالدينهو. ولإضفاء الجو الملائم، شغل كليفورد موسيقى السامبا على جهاز استريو متنقل.

لنعد خطوة إلى الوراء، ونلقي نظرة موضوعية على ما كان يفعله كليفورد. كان يُجري تجربة ليرى إن كان بالإمكان استزراع مصنع المواهب البرازيلية ذي المليون قدم في بلدٍ أجنبي آخر من خلال هذه اللعبة الصغيرة البسيطة. كان يراهن على أن لعب الكرة الخماسية سيجعل بذرة السحر البرازيلي الوقادة تضرب بجذورها في أرض ليدز الباردة والمعتمة.

الصفحات