كتاب " لقد خلق جميع البشر متساوون " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب لقد خلق جميع البشر متساوون
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
إن الشاب إذا كان قد ترك على وضعه هذا لعدة ساعات، لكان بلا جدال قد لفظ أنفاسه وفقد حياته. إن سيناريوهات مشابهة تحدث حتى الآن، وفي يومنا هذا في كل بقاع القطر الياباني. إن المريض إذا دخل مستشفى من المستشفيات ورقد هناك على أحد الآسرة لفترة من الوقت ثم فارق الحياة فسوف يكون أمراً أهون. ولكن إذا حُمل مصاب أو مريض في حالة حرجة بسيارة الإسعاف إلى المستشفيات فإن أكثر المستشفيات ترفض استقبال تلك الحالات وعدم إدخالها.
وهناك قصة أخرى عن واحد من مشاهير الفنانين من منطقة غرب اليابان فقد فوجئ بأن طفله الذي لا يتعدى عمره عاماً وبضعة أشهر يعانى من قيء مستمر وآلام شديدة بالبطن، فأسرع بحمله إلى إحدى المستشفيات.. ولكن تصادف أن كان ذلك اليوم يوم أحد.. أي يوم العطلة الأسبوعية، فما حدث أنه استطاع فقط أن يحصل على موافقة بدخول المستشفى حيث لم تنفذ أي إجراءات إسعافية لابنه المريض. وفي تلك الأثناء أخذت بطن الطفل تنتفخ شيئا فشيئاً وهو يواصل القيء والصراخ من آلام بطنه. أما الأب الذي أنتابه القلق والذعر من وضع ابنه المتدهور فقد قام بلفه في بطانية واستقل سيارة تاكسي أخذ يلف ويدور به على المستشفيات. وفي نهاية المطاف سمحت إحدى المستشفيات باستقبال الطفل وعمل إجراءات الكشف عليه، وقد اتضح إصابة الطفل بانسداد في أمعائه و أجريت له جراحة على الفور لكن الحالة كانت متأخرة للغاية فلفظ الطفل أنفاسه الأخيرة".
إن الجدير بالقول هنا هو أنه من منطلق علمي أن الطب الحديث لهذا اليوم إن أمر الوفاة بانسداد الأمعاء هذا هو أمر غير وارد. فلو تمت الإسعافات الضرورية في مرحلة مبكرة فسوف يتم الاكتفاء بحقنه شرجية ذات ضغط عال ويستغنى تماماً عن التدخل الجراحي. ولكن لأن الحالة ظهرت فجأة يوم العطلة الأسبوعية وهو الأحد فإن الطفل المسكين لم يتمكن من تلقى العلاج رغم السماح له بدخول المستشفى وكذلك لم يقم الطبيب - الغائب – بتوقيع الكشف عليه، ولهذا فقد جاء الطفل في التوقيت غير المناسب.. وفقد الأب ابنه الغالي في ظروف تختلف عن وقوع أخطاء علاجية أو جراحية.
وحالياً.. وحتى في مدينة "تشيبا ساكى" بمحافظة "كاناباوا" حيث يتم إنشاء المستشفى الثامن لمجموعة توكوشوكاي الطبية فقد أصيب موظف متوسط الدرجة من موظفي مجلس نفس المدينة بثقب في معدته كتطور سلبي لقرحات المعدة وتم حمله في سيارة الإسعاف إلى خارج المدينة، لكن حالته كانت متأخرة فمات بعد أن تطورت حالته ليصبح هناك التهاب حاد بجدار المعدة، تلك القصة أيضاً سمعتها ضمن قصص أخرى.
إن مرضاً مثل مرض ثقب جدار المعدة هذا تم إيجاد حل طبي ناجح له منذ أكثر من عشرين عاماً، فإذا كانت هناك فترة قصيرة بين حدوث المرض وإجراء التدخل الجراحي في الغالب تكون العملية الجراحية بسيطة واحتمالات فشلها غير واردة، أي أنه نوع من الأمراض نسبة علاجه وشفاء المريض منه مضمونة مائة بالمائة. وبالرغم من هذا فها هو مريض يموت بسبب مضمون علاجه. وكان السبب فيما حدث أن منظومة الطب الإسعافي لمدينة "تشيباساكى" قد وصلت إلى أسوأ حالاتها. إن معظم الحالات الطارئة التي تحملها سيارات الإسعاف تنقل إلى مستشفيات خارج تلك المدينة، لكن معظم المستشفيات التي ترد عليها تلك الحالات الطارئة غالباً ما ترفض استقبالها. وطبقاً لما ورد على لسان بعض من أطقم الإسعاف، فإنه من أجل البحث عن مستشفى يقبل استقبال تلك الحالات الطارئة فإن الأمر يتطلب زمناً يفوق الثلاث ساعات وأحياناً وصل الأمر لعمل 32 مكالمة تليفونية بحثاً عن مكان للاستقبال.
وقد حدث أحياناً حين وصول عربة الإسعاف إلى مكان الحالة الطارئة أن يتجمع السكان حول طاقم المسعفين فينفوهم ويزجروهم قائلين: "ماذا كنتم تفعلون بحق السماء؟ ولماذا تأخرتم في الحضور؟ ولذلك يضطر المسعفون إلى القيادة إلى مكان مظلم حتى تصلهم إشارة تفيد قبول إحدى المستشفيات دخول الحالة إليها. وفي خلال فترة الانتظار هذه فإن حالة المريض تتدهور إلى أن يلفظ المريض أنفاسه الأخيرة.
بوجه عام فإن الإنسان حين يكون صحيحاً معافاً فإنه لا يشعر أن المرض يعنيه عند سماعه قصصاً عن أناس واجهوا أزمات صحية مفاجئة ولم يتلقوا علاجا مناسباً أو أنهم ظلوا يدورون على المستشفيات في سيارة الإسعاف "كعب دائر" دون أن يقبل أحد استقبالهم. كل هؤلاء يصابون بالصدمة حين يواجهون في الواقع نفس التجربة حين يصاب ذووهم بأزمات مفاجئة ويدركون عن كثب مدى ضعف المنظومة العلاجية الإسعافية كأمر واقع.
برنامج الـتامين الصحي لكل مواطن أساس العلاج الطبي:
منذ عصر ميجى التاريخي شهد الاقتصاد الياباني طفرة إصلاحية كبيرة حتى صار هناك رخاء على مستوى الحياة اليومية للمواطنين لا يقل أبدًا عن المستوى الذي وصلت إليه مجتمعات أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ولكن فيما يخص الرعاية الطبية فإن لسان الحال يقول إن اليابان مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية متأخرة بما يوازى عشرين عاماً كاملة.
إن التقنية الطبية حتى ولو شهدت تقدماً، فإن التعليم الطبي لم يتقدم منذ عصر "ميجى"، نستطيع أن نقول إن الوضع قد ازداد تدهوراً وسوء من منطلق أخلاقيات القائمين على ممارسة الطب. ومنذ عصر "ميجى" ومروراً بعصور الأباطرة اليابانيين خلال النصف الأول من القرن العشرين وحتى منتصف الستينيات منه، فعلى حد علمي فإنه خلال تلك الفترة لم يحدث أن اعتذرت مستشفى من المستشفيات عن استقبال حالة طارئة حملت إليها بسيارات الإسعاف، ولكن بعد تطبيق نظام "التأمين الصحي لكل مواطن" ومع ازدياد مطرد لعدد الحالات الطارئة، كما زدادت حالات تظاهر الأطباء بعدم التواجد تهرباً من توقيع الكشف على الحالات الطارئة. ومع حلول فترة السبعينيات من القرن الماضي حين أشرفت مستشفيات الطوارئ على عصرها الذهبي حدثت في نفس التوقيت زيادة في التعداد السكاني لكبار السن ومعها تم تطبيق نظام العلاج المجاني لهم، وبالتالي صار الكثير من هؤلاء يدخلون المستشفيات للإقامة بها رغم عدم حاجة حالاتهم إلى التواجد بالمستشفيات.. ومعها تحولت الكثير من المستشفيات لتصبح بمثابة "بنسيونات" لإقامة كبار السن ولم تعد بها آسرّة كافية لاستقبال حالات الطوارئ.
وواقع الحال الآن يقول إن أكثر من تسعين بالمائة من المستشفيات العامة وحتى الخاصة لم تعد تستقبل حالات الطوارئ. إن نظام "التأمين الصحي لكل مواطن" و"الرعاية الطبية لكبار السن" الذي قام أصلا من أجل صالح الموطنين قد أصبح اليوم بعيداً عن المسلمات المفترض توافرها في الأطباء وفي المستشفيات وأصبح يسير في طريق التخلي عن "المبادئ الأساسية للعلاج الطبي."
لكن الزمن الآن أصبح غير الزمن، ففي الماضي لم تكن الغالبية العظمى من الشعب الياباني في مستوى التعليم العالي، وربما لهذا السبب كان الطبيب المتخرج من الجامعة يحظى باحترام مرضاه لكن في وقتنا الحالي فإن مستوى التعليم بين الشعب قد ارتفع بوجه عام وعليه فقد صارت نظرات الانتقاد التي توجه إلى الأطباء وإلى الوضع القائم في مجال العلاج الطبي حادة.
كما أنه مقارنة بالماضي فمع التحسن في مستويات الملبس والمأكل والمسكن فقد صار هذا العصر عصراً يدرك فيه معظم المواطنين أن الصحة هي أهم من أي شيء آخر. وفي مقابل هذا أصبح الأطباء وحدهم في أماكنهم يتخلفون عن مسايرة المجتمع ويتم اتهامهم بانعدام الإحساس وسوء التصرف وغلبة الأنانية على أساليبهم في العلاج وثقافتهم وطمعهم.. إلى آخره من الاتهامات القاسية. حتى ولو وصف الأطباء بتلك الصفات من باب السخرية أو الدعاية اللاذعة فكيف لنا نحن الأطباء الذين ننتمي إلى نفس المهنة أن نقف مكتوفي الأيدي لا ندلي بدلونا من أجل تصحيح هذه الأوضاع السلبية؟