أنت هنا

قراءة كتاب رجال الشرفات

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رجال الشرفات

رجال الشرفات

كتاب " رجال الشرفات " ، تأليف منى خويص ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
يشهد العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي يقظة للشعبوية.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2

وبخلاصة أكيدة يمكن القول إنه طالما أنّ الشعبوية، هي ظاهرة مركّبة يتداخل فيها الإنساني بالسياسي والثقافي بالوجداني، وتداهمها ملامح ديكتاتورية وفاشية، فهذا يعني أنها ليست ظاهرة داخل التاريخ فقط، بل هي حياة داخل التاريخ، وعليه فلا يزال في لدنها متسعات للتأمل الفكري بها، وليس مجرد البحث المنهجي فيها وعنها فقط.

أولى خلاصات اتّباع منهج "التأمل التاريخي" بواقعة أنّ الشعبوية تكرر نماذجها اليوم في العالم الثالث، وأيضاً في الغرب، بعد أن ساد يقين بعد الحرب الكونية الثانية أنّ نجمها قد أفل هناك؛ فهذا يقود للاعتقاد أنه لو كان البحث التاريخي توصل إلى صياغة تعريف محدد للشعبوية، لكان بالإمكان التوقع بكثير من الثقة، أن نماذجها لن تتكرر في عصرنا الجديد. لنلاحظ أنّ الفاشية هجرها حتى القادة الشموليون من أبناء القرنين العشرين والحادي والعشرين. وسبب ذلك، أنّ البحث التاريخي، حدد بوضوح قاطع ولا يقبل اللبس، مفهوماً دقيقاً للفاشية، بحيث لم يعد بإمكان أي زعيم معاصر التستر على فاشيته واستغلال وجود فراغات في تحديد مفهوم الفاشية، ليعمد إلى تأويله، خدمة لممارسة فاشية مقنّعة.

والخلاصة الأساسية، الممكن استنتاجها هنا، هي أنّ قصور البحث التاريخي عن صياغة تحديدات تعريفية حاسمة للظواهر الشمولية، لا يؤدي إلى خطأ منهجي فقط، بل إلى اعتلال الفعل التاريخي الجاري والمستقبلي، وإلى تكرار الأخطاء التاريخية. بكلام آخر، إنّ البحث التاريخي، هو أكثر من عملية قراءة للواقع الإنساني وجعله متصلاً ومحل مراجعة إنسانية وحضارية. إنّ البحث التاريخي، له، أيضاً، وظيفة قمع تكرار الأخطاء، وإنتاج "حصانة حضارية مستديمة" تضمن أنّ التاريخ يتقدم إلى الأمام، وأن فعله حضاري، وليس ماضوياً مستنسخاً، أو نمطياً جامداً.

وضمن هذا السياق المفهومي لموقع "البحث التاريخي" في تصويب "فعل التاريخ"، يظهر أنّ البحث التاريخي، في جزء هام من مساره، يبدو أشبه بعملية بناء متصلة لهياكل الذاكرة الإنسانية الحضارية التي تصوّب التاريخ، وتحقن ذاكرة البشرية بالقيم التي تقاوم عودة مجتمعاتها إلى نماذج سياسية واجتماعية وثقافية، مسؤولة عن تخلف العقل وتعطيله.

والملاحظة الأهم في هذا المجال، هي أنه حينما ينتج البحث التاريخي تعريفات حاسمة للظواهر السياسية، فإن ذلك يتبعه إنتاج للقيم الإنسانية والإصلاحية التاريخية التي تمنع تكرّر الظواهر التاريخية المريضة.. والعلاقة بين البحث التاريخي وإنتاج القيم التاريخية، هي عملية متصلة تقوم على معادلة تحاكي المعادلة الاقتصادية حول أنّ لكل إنتاج جدواه الإيجابية، وكذلك هو الحال بالنسبة لارتباط البحث التاريخي بجدواه الإنسانية الحضارية. ومن دون الاتصال بين هاتين المعادلتين يصبح التأريخ رواية للتاريخ، وليس فعلاً اصلاحياً في التاريخ، كما يجب أن يكون أصل غايته.

وما تقدم يحتّم أن يكون البحث في التاريخ حاسماً في مجال تحديد تعريفات ظواهره، لأن إبقاءها ناقصة التحديد وملتبسة ومحل خلط بينها وبين ظواهر أخرى، هو ليس مجرد فعل تأريخي منهجي خاطئ، بل هو فعل تاريخي يحمي الأخطاء الماضية، ويجعلها قادرة على البقاء والظهور مجدداً، ويجعل عملية نجاح "ظواهر الأمس البائد" باختراق "العصر المتنور الجديد"، ممكنة.

على هذا، فإنّ المسؤولية عن تجدد بروزملامح للشعبوية في زمننا الراهن، تعود، في جزء كبير منها، إلى أنّ البحث التاريخي لهذه الظاهرة، ترك وجهها التعريفي ملتبساً، وعرضة للخلط بينه وبين ظواهر وأيديولوجيا أخرى شمولية. وبغياب التعريف الواضح للشعبوية، غاب أيضاً إنتاج المفهوم التاريخي الإنساني الذي يؤبد إدانتها، ومن هنا نجد أن نماذجها تتكرر من دون وجل من قبل قادتها الحديثين من أن يصيبهم اللوم التاريخي الإنساني في حال بدت عليهم أعراض هذه الظاهرة المرضية المتخلفة في سلوكهم السياسي والاجتماعي والثقافي. وهذه بحق قضية هامة، والمأساة فيها أنها غير مطروقة في النظرة الحديثة للعلاقة بين "البحث التاريخي والجدوى الإنسانية الحضارية منه".

كما وأنّ الدراسات الباحثة عن تعريف للشعبوية تظهر أنها وصلت لتقديم تحديد سلبي لماهيتها، بدليل أن هذه التعريفات:

أولاً- لم تزلِ الالتباس بينها وبين ظواهر أخرى تشبهها.

ثانياً- أبقت تعريفها قاصراً عن تحديد كنهها الخاص، واكتفت بتحديد ظواهرها العامة. فالشعبوية بهذه المواصفات العامة تبدو وكأنها شيئ من الشمولية وليست حالة خاصة بداخلها.

ومن خلال دراسة نماذج الشعبوية، يمكن إضافة محددات لم يلحظها كل البحث التاريخي الماضي، في مجال تعريفه السلبي للشعبوية.

إنَّ المحدد الرئيس الأول للشعبوية، هي أنها أعلى مراحل الشمولية، ولأنها كذلك، فهي تثير لدى الباحث التاريخي عنها سمة "الاستذكارية التاريخية"؛ بمعنى أنَّ مقاربتها تستدرج الذاكرة التاريخية، لاستحضار معظم الظواهر الاجتماعية والسياسية المسؤولة عن اغتيال يقظة العقل وظهور القيادات الشمولية والمجتمعات المغلقة.

إن السمتين الآنفتين (أعلى مراحل الشمولية والاستذكارية التاريخية) هما تعريفان سلبيان تضيفهما هذه المقدمة، إلى الجهد البحثي عن الشعبوية، وأهميتهما أنهما ينطبقان على ظاهرة الشعبوية من دون غيرها من الظواهر الشبيهة بها، وعليه فهما سمتان تقتربان من أن تكونا سمات تعريف إيجابي للشعبوية.

واستدراكاً لجهد البحث عن سمات تعريف حصرية بالشعبوية، تحاول هذه المقدمة، إيراد مواصفات لها تشترك فيها مع حالات شمولية تشبهها، كمدخل لاستبيان مواصفات تنفرد بها هذه الظاهرة.

الصفحات