كتاب " رجال الشرفات " ، تأليف منى خويص ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
يشهد العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي يقظة للشعبوية.
أنت هنا
قراءة كتاب رجال الشرفات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

رجال الشرفات
أما في مجتمعات العالم الثالث، فالوضع مختلف اختلافاً جذرياً. ففي تلك المجتمعات التي لم تطرق الحداثة بابها، ولا تزال تدور في رحاب التخلف والجهل وغياب الفكر العقلاني، مناخاتها العامة تهيء أرضية ثابتة وتربة خصبة لبروز الشعبوية فيها. وهذه الأخيرة لا تقتصر على المجال السياسي، بل تمتد لتشمل النسيج المجتمعي بأكمله. إنها ثقافة ونمط سلوك اجتماعي ولغة تخاطب، وأحياناً تجر جماهير تلك المجتمعات السياسيين إلى تبنيها. إنَّ غياب المناخات العقلانية عن تلك المجتمعات تتولّد عنه بالضرورة ثقافة شعبوية.
..ليس هناك فكر للعالم الثالث ولو حلمنا بذلك، فلهذا العالم قاسم مشترك (1) "وهو ما يعرف بحركات التحرر الوطني ومبرراتها، وتقنيات تأسيس الدولة والأسباب المبررة لها التي تقع في نطاق واحد هو نطاق النير الاستعماري مع نتائجه الاجتماعية، المادية والفكروية ذاتها، تخلُف، تقويض بنى المجتمع، خنق الثقافة الوطنية. إنّ المقصود إيجاد دولة على الرغم من الإمبريالية الجديدة... إنّ المرجع الالزامي لنشوء تلك الدول، كان مرجع الدول الصناعية المتطورة في نجاحها الليبرالي أو في نجاحها الاشتراكي السوفياتي... وإذا كان ثمة نقطة مشتركة بين دول العالم الثالث، فهي "الاشتراكية". وهي اشتراكية ليس من المؤكد أنّ الاستناد إلى الماركسية-اللينينية يرسم الخط الفاصل الأساسي لها. فهذه الأخيرة قد تشكل سنداً أيديولوجياً لما يعرف بحركات التحرر الوطني في تلك الدول، إلا أنَّه، ولكونها دولاً غير مصنّعة، كان يجب اللعب على المركب البروليتاري للماركسية، كي يتوافق مع وضع كل دولة".
وفي الإطار نفسه، يعتبر إريك فروم (2) "إن الاشتراكية والماركسية شكّلتا عوامل جذب لهذه الأقطار، ليس بسبب الإنجازات الاقتصادية فقط... بل بسبب العناصر الروحية لأفكار العدالة، المساواة، والعالمية التي هي متأصلة في جذر الاشتراكية الماركسية".
لقد قدمت دول العالم الثالث نماذج جديدة للاشتراكية؛ فقد ظهر ما يسمى بالاشتراكية الافريقية، الاشتراكية الكوبية، الاشتراكية الماوية والاشتراكية الناصرية، وكلها اشتراكيات منحرفة انحرافاً كبيراً عن الارثوذكسية الماركسية. ويعزو البعض انحرافها إلى الحاجة لمقولة الشعب، كذلك لغنى هذه الايديولوجيا بالشعارات التي تحاكي الطبقات العاملة، والتي يحل محلها في تلك الدول الطبقات الفقيرة والفلاحون والمهمشون والذين يشكلون القسم الأكبر من الشرائح المجتمعية هناك، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لقدرة هذه الشعارات في عملية التعبئة الجماهيرية والحشد الجماهيري اللذين يحتاجهما قادة تلك الدول لإنجاز أهدافهم. وبالمقابل الجماهير نفسها، ونتيجة للمرجعية الثقافية التي تتحكم بها، تكون بحاجة إلى هذه الشعارات التعبوية الشعبوية. وهي لا تستجيب لها - أي الجماهير- فحسب، بل أحياناً وكما ذكرنا، تستجرّ السياسيين والقادة إليها. أضف أخيراً إلى ذلك كله، أنّ ما سهّل تبنّي الاشتراكية في هذه المجتمعات، عامل خارجي، لكنه مهم، ويتمثل في تدخل الاتحاد السوفياتي، آنذاك، من باب مد نفوذه فوق أكبر بقعة من خريطة العالم عن طريق دعم هذه الحركات وتمويلها ومدها بالسلاح، مما يسهل لها الطريق لتحقيق أهدافها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الحركات الثورية التي تبنت الاشتراكية، وتمكنت من الوصول إلى السلطة، من خلال التأييد الشعبي لها، تحولت فيما بعد من (3) "جمهوريات راديكالية - كما كانت تزعم - إلى ما يشبه الملكيات، من استئثار لقوى ونخب محددة للغاية بالسلطة ثم محاولة توريثها للأنجال والأقارب" حسب د.محمد يحيى. والملاحظة نفسها يبديها بيار تاغييف فيقول (4) "إنه وفي حال الشعبوية ينقلب التوجه إلى الشعب إلى ديكتاتورية تمارس على الشعب وضده".
كما ويعتبر بعضهم أنّ هذا التحول من الجمهوريات إلى الديكتاتوريات قد أدى إلى تراجع الشعبوية في سبعينيات القرن العشرين، خصوصاً في العالم العربي. ورأوا أنّ هذا التحول ترتب عليه نتائج، تبلورت في المرحلة الممتدة من أواخر الثمانينيات وبداية تسعينيات ذلك القرن، وحتى الآن، حيث شهدت هذه المجتمعات يقظة مدوية للشعبوية، تجسدت في الحركات الإسلامية المتطرفة، والتي تقف بمواجهة الحكومات، وتشكل تهديداً لها في اقترابها من ملامسة السلطة في أكثر من مكان.
إنّ ثمانينيات القرن الماضي، لم يسجل يقظة للشعبوية في العالم الثالث الذي يشكل العالم العربي جزءاً منه فقط، بل إنها مزدهرة أيضاً في مجتمعات أميركا اللاتينية. كذلك يرى بعضهم أنها أطلت إلى واجهة العمل السياسي في أوروبا، وكذلك في الولايات المتحدة الأميركية من خلال ما يعرف بحركات اليمين المتطرف، على الرغم من أنّ هذه الدول اعتبرت، دوماً، أنّ هذه الظاهرة باتت جزءاً من ماضيها، لكن يبدو اليوم أنها تعود لتقف أمامها مرتبكة، يساورها خوف كبير وقلق من مخاطرها.

