كتاب " رجال الشرفات " ، تأليف منى خويص ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
يشهد العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي يقظة للشعبوية.
أنت هنا
قراءة كتاب رجال الشرفات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

رجال الشرفات
الملاحظة الثانية: وهي تتسم بمغامرة مندفعة في رحاب ما أسميناه آنفاً، بالتأمل التاريخي لهذه الظاهرة، ومفادها أنّ ثمة نزعة إنسانية، غاب عن المؤرخين لحظ اعتبارها، قد تكون مسؤولة عن تشويش مسار التأريخ لظاهرة الشعبوية. وقوام هذه النزعة أنه حينما تنقاد مراحل من التاريخ بظواهر شمولية عاصفة، فإن مؤرخيها، يصبحون ضحايا الكتابة عنها، كما كان مواطنو تلك الحقب الشعبوية أو الشمولية ضحايا أيضاً.
وهذا نوع من الإحساس بسمة الضحية ناتج عن الانحياز الإنساني الحضاري للمؤرخ ضد فظاعة الخطأ الذي مورس بحق مسار تطور الإنسانية. لنلاحظ أنّ مراجعة التاريخ ليست عملاً مجرداً، بل هي تأصيل للأحاسيس الإنسانية بمفعول رجعي. وهذا ينطبق على كل أنواع المراجعات الفنية للأحداث والمواقف (سينما- كتابة). حتى ستالين مفرط الشمولية، يحكى أنه حينما شاهد فيلماً يراجع بطولاته، دمعت عيناه، وتعرض لأن تنال تأثيرات "الانحياز الإنساني الحضاري"، من حديديته. الفن، بمفهوم الصورة السينمائية أو النص الكتابي التأريخي، هو فعل يخالطه الانفعال الحضاري الإنساني، وذلك بالاتجاهين، أي بالنسبة لمتلقيه أو لملقنه. والمؤرخ، بوصفه محكمة إبداعية للتاريخ، لا يستثنيه هذا النوع من التأثيرات عليه، حتى لو كانت العلمية مقصده في المنهج والتحليل والخلاصات.
ما قد نخلص إليه في هذا المجال، ولو بصفة أولية، هو أن الشعبوية، لفرط بشاعة فعلتها ضد تطور المجتمع، تستدرج المؤرخ الراصد لها، إلى حالة نافرة من الانحياز الحضاري الإنساني ضدها، ويصبح ميالاً لتأكيد استهجانه لها، عبر لصق كل ما توافر من مشابهات تعريفية مكروهة بها.
إنّ الأعراض الآنفة تظهر أنّ المؤرخين معرضون لأن يخالط مشاعرهم، بدرجة عالية، انفعال "التأصيل الحضاري الإنساني" لدى مقاربتهم ظاهرة الشعبوية، وذلك على نحو يعزز زعمنا بأنها "أعلى حالات الشمولية"، وليست مجرد ظاهرة منها. ويؤكد زعمنا، أيضاً، عن أنَّ الحديث عنها يستدرج عملية "استذكار" كل الآفات المشابهة لها، خصوصاً وأنّ هذه السمة الاستذكارية لا نجدها حاضرة بهذه القوة خلال الحديث عن ظواهر أخرى تاريخية مكروهة ومسؤولة عن تخلف العقل الإنساني السياسي والاجتماعي والثقافي، الخ.
ومن ثم هناك سؤال عن طبيعة هذه الظاهرة، مكوناتها ومعناها. أي، ماذا يعني مصطلح الشعبوية بدقة. بحيث إن الكتابة الباحثة عن ظاهرة الشعبوية، لا يزال في لدنها متسعات للتأمل الفكري بها وليس البحث المنهجي فقط. كما وأن الوجه التعريفي لمصطلح الشعبوية لا يزال ملتبساً بمعنى: هل هي أيديولوجيا شاملة، أم غوغائية شعبية يمتطي ظروفها رجل عيَّن نفسه قائداً ملهماً، وجمع بين قبضتيه مفاتيح استثارة جينات الغرائز في مجتمعه، على حساب يقظة العقل ولمصلحة تعطيله، أم هي مجرد خطاب، يصادر اللحظة، ويشد بمفرداته الغيبية أو العصبوية، ناصيتها إلى ماضٍ سحيق يجدد، على صورته، العلاقة بين القائد والجماهير، فتتبدد المواطنية بمعناها الحديث، ويصبح الحاكم نصف إله، أو شخصاً يشبهه على الأرض.
قصارى القول إن ثمة مساحة لا تزال خاوية في مجال إنتاج تعريف محدد للشعبوية. فالذين قاربوا قضية الشعبوية وما الذي تمثله- أهي القائد، أم خطابه، أم ايديولوجيا غوغائية، أم جميعهم-، لم يلبّوا مطلب إكمال سيرتها التعريفية العلمية، ولم يضعوا التعريف الخاص بها الذي يصمت بازائه الالتباس، ويبدد الخلط بين حالتها وحالات أخرى تشبهها أو مصطلحات تلازمها لإيضاحها، كالديمقراطية المباشرة أو الديماغوجية أو الفاشية أو الدينية الخ... . والأهم من ذلك، لم ينتج حتى الآن المفهوم التاريخي الإنساني الذي يدينها، ومن هنا نجد أنّ نماذجها تتكرر من قبل الكثير من القادة الحديثين دون خوف من أن يصيبهم اللوم التاريخي الإنساني في حال بدت عليهم أعراض هذه الظاهرة المرضية المتخلفة في سلوكهم السياسي والاجتماعي والثقافي. وهذه بحق قضية هامة، والمأساة فيها أنه لم يتم التطرق إليها من قبل البحث التاريخي، ولا تزال خارج وعيه الحديث، بحيث إن عملية التعرية لمفهوم ما يجعل عملية تكراره دونها عقبات كثيرة؛ فعلى سبيل المثال لا يمكن للفاشية كتجربة أن تتكرر في أوروبا، ويصعب على أي نموذج حاكم أو قائد أن يكرر السلوك الفاشي، لأنّ هذا المفهوم لم يعد ممقوتاً تاريخياً وسياسياً فقط، بل أيضاً إنسانياً. وكذا الحال بالنسبة لظواهر أخرى شبيهة. فوضوح التعريفات بشأنها جعلها عارية من شبهات التستر والتمويه، وبالتالي يمنع تكرارها. أما الشعبوية فلا تزال، بفعل أنّ تعريفها ناقص وغير محدد، قادرة على التستر وتأويل ملامحها، بدعوى المقدس تارة والانتماء الأعمى تارة أخرى.
ويقود هذا النوع من التأمل التاريخي الإنساني بخصوص الشعبوية كظاهرة ناقصة التعريف الصريح، إلى ملاحظات أخرى تنتمي إلى هذا النوع من البحث الإنساني التأملي في دراسة ظواهر التاريخ السياسي (اذا جاز استخدام هذا التعبير الاصطلاحي في علم السياسة):
الملاحظة الأولى: إنّ المساحة الواسعة من التاريخ، التي ملأت حالات شعبوية حيوياتها، تبرهن على أنها ليست حالة ملحقة بأخرى شبيهة لها وأوسع منها تعبيراً عن ذاتها بالمفهوم التعريفي. وهذا ما يقود إلى جدية التأمل الفكري في اعتبار أنّالشعبوية، قضية منفصلة، بل مستقلة، في مفهومها، حتى لو تعثرت حتى الآن قدرةالجهد البحثي علىإيجاد تحديد علمي لمفهومها كامل المحددات، ولا يقبل اللبس أو التأويل.
الملاحظة الثانية: وهي تخدم تعريفاً سلبياً للشعبوية، ومفادها أنَّ التمعن، يؤكد أن المؤرخين صاغوا تعريفات واضحة لها، ولكنها ليست كاملة المحددات. إنّ الوهن التأريخي لهذه الظاهرة، ينحصر في كونه لم يبعد حالة الاشتباه بينها وبين ظواهر أخرى مشابهة لها. وأبعد من ذلك، لم يقدم إيضاحاً علمياً مطلوباً حول: هل الشعبوية هي جزء من ظواهر مشابهة لها، بمعنى أن هذه الأخيرة هي أوسع منها في التعبير عن ذاتها، وبالتالي، فالشعبوية، هي موجة غوغائية في بحرها، ليس إلا.

