أنت هنا

قراءة كتاب رجال الشرفات

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رجال الشرفات

رجال الشرفات

كتاب " رجال الشرفات " ، تأليف منى خويص ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
يشهد العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي يقظة للشعبوية.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

الشعبوية تحت سقف الديمقراطية

الواقع أنّ آليات العمل الديمقراطي تحد من فاعلية الشعبوية، لأنّ بروز هذه الاخيرة في تلك المجتمعات، قد يحدث قلقاً، ويسبب هزّة في داخلها، إلا أنَّه غير قادرٍ على هدم الهيكل وتدميره بالشكل الذي يكون متاحاً له في الأنظمة اللاديمقراطية.

يوصّف جيل دولوز، والذي اعتبر أحد ملهمي ثورة الشباب في فرنسا العام 1968، حركات المقاومة السياسية لجهاز الدولة في أوروبا، بأنها حركات تختلف عن نمط المشروعات الثورية الكبرى في القرن التاسع عشر؛ نمط لا يعرف اتجاهاً محدداً، ولا يقتصر على مجالٍ بعينه، يواجه الدولة ولا يطمح إليها. إنَّ ما يطلق عليه تسمية السياسات الصغرى في المجتمعات ليس كالسياسات الكبرى التي تهدف إلى السيطرة والصياغة الشاملة للمجال الاجتماعي؛ إنها مجموعات صغيرة تبحث عن خطوط للإفلات. يتحدث دولوز عن تغييرِ ثوري جديد يختلف عن المشروعات الثورية الموروثة عن الماركسية، ويحدد ملامح هذا التغيير قائلاً (6) "ليس من المدهش أنّ كل أنواع القضايا العرقية واللغوية والأقلية والإقليمية والجنسية والشبابية، تنبثق ليس كنزعات ماضوية فقط، ولكن في شكل ثورية راهنة، تضع بصورة شاملة موضع المساءلة كلاً من الاقتصاد المعولم وترتيبات الدولة القومية، بدلاً من أن نراهن على الاستحالة للثورة وعلى عودة الفاشية، لماذا لا نتصور أنّ نمطاً جديداً للثورة في طريقه لأن يكون ممكناً". وهذا النموذج الجديد يسميه دولوز النموذج الذري، فيقول (7) "إنّ السياسات الصغرى لا حصيلة لها ولا تحقق غاية خارجية، فهي ممارسة بلا نهاية، وهي غاية ذاتها، نموذج السياسات الصغرى هو ثورة الشباب عام 1968 التي، وعلى الرغم من أن الكثيرين اعتبروا أنها فشلت في تحقيق أهدافها، إلا أنَّها نجحت، لأنها دشنت عصر السياسات الصغرى، وأثبتت أنه منذ سبعينيات القرن الماضي لا تحدث الثورة الحقيقية على مستوى النظام الاجتماعي لكنها تحدث داخل الأفراد والمجموعات الصغرى. ومرة أخرى، لا يعني ذلك الدعوة إلى اللامبالاة تجاه السياسات الكبرى أو الفصل بين العمل على المستوى الذري والعمل على المستوى الكتلي، لأنه في النهاية ينبغي أن تؤدي هذه الحركات الصغرى إلى تغيير الوضع الأكبر". ففي ظل انحسار قدرة الدولة نتيجة لتراجع دور الجيش والمدرسة على إدماج أفراد المجتمع في النظام الاجتماعي المهيمن، يقدم دولوز فلسفة تجعل التغيير الثوري مرهوناً بالنضالات الخاصة لمجموعات صغيرة مثل الشباب والنساء والشواذ والأجانب، تحاول أن تنتزع مجالاً للممارسة طبقاً لقواعدها الخاصة المستقلة عن قواعد النظام العام.

يعتبر بعضهم أنّ هذه الصياغة لفلسفة دولوز حول الثورة هي فلسفة للفوضوية، كون الرغبة هي أحد اشتقاقات العصبية أو أنها تتضمن نزعاتها، وهي المحرك لمفهوم الشعبوية. إلا أنَّ احتواء ظاهرة شباب 68 على بعض العناصر الشعبوية ـ من حيث اعتبارها فوضوية وانطلاقاً من الشغب الذي أثارته في المدن التي امتدت إليها ـ لا يدفعنا إلى تصنيفها كإحدى الحركات الشعبوية، على الرغم من أنّ انتقادات كثيرة وجهت إليها. فالآن بوديو، على سبيل المثال، انتقد هذه الفلسفة واحتفاءها بالرغبة في مواجهة عمليات التحجيم الاجتماعي. كذلك يعلق د.أحمد عبد الحليم عطية بأن (8) "دولوز يقدم نمطاً غريباً للإنسان الثوري، إنه شخص لا يعرف على وجه التحديد من هم الذين سيجدر به مواجهتهم، وليست لديه أدنى فكرة عن شكل المجتمع الذي سيتحقق بعد الفعل الثوري"، علماً أن دولوز نفسه يضع سقفاً فيما بعد لهذه الحركات فيقول: "إذا كانت القدرة تعني السيادة، فإن الدولة ستكسب دائماً، هذا إذا انطلقنا من احتمال تحديد الاقلية في إمكانية أن تصبح غالبية، أو في قلب النظام، أما إذا كانت القدرة تعني الابتكار وقلب الشيفرات وإجراء عمليات الترحيل، والتي تتم جميعها على المستوى الذري، فإن الدولة، هنا، ستخسر لا محالة، لأنه ليس بمقدورها مراقبة كل شيء، كما أنّ قدرتها على الاحتواء محدودة".

إنّ ما توخاه دولوز ليس الانقضاض على النظام، بل الدفع إلى انتزاع المزيد من الحريات للإنسان في ظل النظام.

هذا الأمر الذي يتبناه أيضاً الكسندر دونّا في توصيفه للحركات التي يطلق عليها اسم الحركات الشعبوية في الغرب، بحيث يعتبر بأن هذه الحركات (9) "تبقى في سياق المطالبة بالمزيد من الديمقراطية أو تكون بمثابة عودة إلى المصدر الشعبي للسلطة في غياب مشروع جماعي". أما الشعبوية بالنسبة إليه فيضرب لها مثالاً الحركة البولانجية والبوجادية في فرنسا بحيث يعتبرها "ظاهرة عابرة تنتهي بالعودة إلى الوضع القائم".

وفي هذا السياق لا بد من الوقوف عند مغامرة الجنرال الفرنسي جورج بولانجيه للمزيد من التوضيح حول الظاهرة الشعبوية.

فهذا الجنرال الذي تولى وزارة الحربية بين العامين 1886-1887 في ظل الجمهورية الثالثة في فرنسا، يعتبر من أكثر النماذج الشعبوية التي عرفتها هذه الأخيرة، فهو كان قاب قوسين أو أدنى من القيام بانقلاب عسكري يطيح بالجمهورية الثالثة في فرنسا، وهو، وبعد أن عيّن وزيراً للحربية، راح يكثف اعتناءه بشعبيته، وعندما علم بالفرق العسكرية المرسلة لضبط إضراب نظّمه عمال مناجم الفحم هناك، أمر الفرق العسكرية بأن يتقاسموا الخبز مع العمال المضربين، مستثيراً بذلك حماسة المواطنين من كل صوب. كما أنّ الشعب كان يتراقص حماسة لخطاباته النارية، التي جاءت في وقت عانت فيه الحياة البرجوازية المنتظمة في الجمهورية الثالثة ركوداً، فجاء هو ليكسر الركود ويقدم استعراضات بطولية أمام الفرنسيين ويزين بالأحلام الجميلة مخيلات العمال والفلاحين، ويستنفر الروح العسكرية لدى أفراد الجيش وضباطه، حتى غدت صورة الجنرال تخيم فوق السحب المترصدة للجمهورية الثالثة، إلا أنَّه وفي اللحظة الحاسمة التي كان ينتظر منه أن يبدي شجاعةً، ويظهر مدى قوته أصابه الإرباك وعجز عن اتخاذ القرار المناسب، في اللحظة المناسبة، وفر هارباً إلى بروكسل حيث قضى فيها انتحاراً عام 1891.

الصفحات