كتاب " مجنون بن بيروت " ، تأليف فيصل فرحات ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مجنون بن بيروت
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مجنون بن بيروت
أذكر أني كنت مضطرباً كثيراً، لكني شددت على نفسي واتصلت بالسيد جان صاحب شركة النقل وطلبت منه مساعدة بأن يعطيني عنوان الشقة التي عليَّ أن أكون من فريق عملها لهذا اليوم، لأني مضطر أن أتصل بالتلفون بأهلي في بيروت، فوافقني وأعطاني العنوان على شيء من مضض، وذلك لأني أخرق قوانين الشركة، لكنه ختم قائلاً بأني رجل «منيح». وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى قصة خرق القوانين من قبلي، حيث عليَّ الحضور إلى مركز الشركة في الساعة الثامنة صباحاً والانطلاق مع بقيّة فريق العمل في الشاحنة بعد تسجيل الأسماء وتحديد ساعات العمل والعنوان. لكن بما أن لدي حالة خاصة وضرورية وهي الاتصال بأهلي في بيروت بعد سماع الأخبار على التلفزيون، ولأني أعيش في وسط مانهاتن، فقد سمح لي المعلم جان بأن لا آتي إلى الشركة، وهذا ما أعطاني بعض الثقة بنفسي مستعداً للاتصال بالبيت الأبيض.
مع اقتراب الموعد ازداد اضطرابي، وبدأت أشعر مجدداً بالخوف والهلع وأنا أراوح في مكاني، أجلس ثم أنهض ثم أعود فأجلس ثم أنهض.
مع اقتراب عقارب الساعة مما قبل التاسعة بدقيقتين ازدادت دقات قلبي، فوضعت يدي على صدري وسمعت دقات قلبي أكثر من شعور يدي بالنبض ودقاته. أي بعكس ما حصل معي في الليل، حيث اتصلت وأنا لست خائفاً مثلما شعرت في الصباح وتحديداً حين بدأت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة، وأنا بكامل وعيي. (لم أُدخن «الماريوانا» لأني ذاهب إلى العمل) لكني لم أقو على الوقوف فارتميت على الكرسي. بعد لحظة، عدت ووقفت في محاولة مني كي أختبر إذا ما كنت أستطيع الوقوف دون الوقوع، فنهضت ووقفت وعدت جلست بعد أن «سكّوا» (رجفة شديدة) ركابي! وبعد خمس دقائق اتصلت بالتلفون على الرقم نفسه الذي طلبته في الليل وردت عليَّ امرأة سائلة بصوت جدي عن اسمي وماذا أريد؟ فقلت لها ما قلته لزميلها. فجأة (عادوا ركابي «يسكّوا») فتمسكت بلوح خشب «التتخيتة» الذي كان مثبتاً من جانبي حائطي الغرفة، وحملت جسدي بيد والسماعة بيد، ثم رفعت رجليَّ عن الأرض، مما ساعدني على قول ما كنت أريد قوله وأنا في حالة هلع «معلّق» بلوح الخشب. وبعد أن سكتت للحظة، سألتني إذا كان هناك كلام آخر أريد أن أقوله؟ فأجبتها بكلمة: «لا»، وعدت وشكرتها متمنياً السلام للبنان ولأميركا وكررت قولي كي لا يسمعوا كلام مستر كيسنجر، وأقفلت الخط واضعاً السماعة مكانها، ثم «هرولت» إلى الشغل وأنا بحالة شبه جنونية شاعراً بأن حياتي قد أصبحت في خطر، كما أن لوح الخشب قد «تخلَّع»!
في دفتر يومياتي لعام 1989 باللغة الإنكليزية «المكسرة» لم أكتب بتاريخ 4 آب (يوم التهديد)، بل كتبت قبل وبعد، أي بتاريخ 3 و5 آب. ومن أهم ما كتبته على الدفتر في 3 آب أني قد التقيت الصديق المصوّر الصحافي محمد عياد في مبنى «الأمم المتحدة» حيث تغدينا في «الكافتيريا» على حسابه، واشترى لي شمسية على سبيل الهدية، كما أقرضني مئتي دولار بعد أن سألته مئة، فزاد محمد مئة ثانية لأن المبلغ مُرسل إلى بيروت، وهو سوف يعطي المبلغ إلى أخي جمال كي يزيد عليه ويرسله إلى العائلة في بيروت. وهكذا حصل.
كما تحدثنا عن «الرهائن» في بيروت وكررت رأيي أن على أميركا أن تضغط على إسرائيل من أجل إطلاق سراح الشيخ عبيد كما يطالب الخاطفون، فوافق وهو يضحك. أما بتاريخ 5 آب فإن أهم ما كتبته عن يوم 4 آب هو أنه اليوم الأول في حياتي الجديدة، بعد أن أصبحت شخصاً آخر غير الذي كنته وعرفته آلسن حسب قولها لي عبر التلفون من بيتها في لندن، ثم طلبت مني بأن أحكي مع الحائط أو أكتب رأيي السخيف ضد كيسنجر الذي قلته أيضاً لـ «البيت الأبيض»، وخاتمة قولها أن من الأفضل لي أن لا أصرف المال على التلفون، وهي تريد أن تنام. فوافقتها وأقفلنا خط التلفون معاً، ونمت بلا عشاء ولم يكن معي مال غير أجرة المترو.
أما في صباح 4 آب فقد أقفلت باب غرفتي من الخارج بخوف وهلع، سرعان ما خففته «هرولتي» على الدرج من الطابق الثاني وصولاً إلى المدخل. أذكر، أنه حين خرجت من باب المبنى إلى الشارع، بدت لي المدينة وكأنها سجن كبير عليَّ الركض فيه لإثبات براءتي من «الورطة» التي ورطت نفسي فيها وفي أميركا، تحديداً في نيويورك التي تعودت ضجيجها المُرعب. لكني مشيت كعادتي بحسب إشارة مرور المشاة وركبت المترو إلى الشقة التي لا أذكر ماذا عملت فيها بالتفصيل، إذ كنت طوال الوقت أفكر بماذا سيحصل معي من اليوم و«رايح»!
أما في 6 آب فقد أمضيت ثماني ساعات في مسرح «البيت» مع المخرجة جمانة رزق، فأكلت وشربت مع «مصروفي» مقابل عمل دهان.
في المساء اتصلت بآلسن ثلاث مرّات. في المرة الأولى كانت قد أقفلت التلفون بوجهي حين قلت لها إن كيسنجر هو هتلر أميركا! أما في الاتصال الثاني فقد تعالى صراخنا بعد أن قلت لها إني أريد أن أتزوج «إللي بتقبل فيِّ» كي أمارس الجنس، وهي ردت قائلة إن زواجاً كهذا زواج سخيف. وفي الاتصال الثالث اعتذرت منها عن صراخي، ثم تحدثنا بهدوء عن أشياء حياتية حيث أخبرتها عن وقوع «شقفة» باطون من سقف الممشى في البناية حيث أعيش كادت تسقط على رأسي. فضحكنا واتفقنا على الاتصال لاحقاً. وحين وضعت سماعة الهاتف مكانها مرت «ومضة» تسألني أن أضع نفسي مكانها، وبالطبع رأيت شيئاً من «الورطة» قد يمس آلسن لكوني أتيت إلى أميركا على عنوانها وبمساعدتها. وأنا اليوم بت غير ذاك الشخص الذي عرفته، وفي الوقت نفسه لا تريد أن تقطع معي «على الآخر»، ولو من باب المساعدة على العودة إلى بيروت في حال ساءت ظروفي أكثر مما هي عليه الآن من سوء. لذا، تفهمت غضبها على ما أنا فعلت. ولربما فكرت أكثر في الموضوع لجهة الشك والخوف الذي بدأ يظهر في كلامنا وتعابيرنا شبه المختارة مع التفكير فيها ونحن نقولها على التلفون. حينئذ نمت «زعلان».
يمر أسبوع وأنا لا أكتب عما حصل معي على الدفتر بسبب الخوف وعدم الرغبة في الكتابة. لكني كتبت بعض التفاصيل على دفتر «الجيبة»، وأهمها رصد أول إشارة مراقبة حيّة لي من قِبل رجل أسود «هوم لاس» لا بيت له كان نائماً على ظهره ما بين البابين الخارجي والداخلي لمبنى بيتي في وقت حار. فنظرت في عينيه وأنا أخطو قربه فلم أجد فيهما نظرة الجائع، كما لفت انتباهي جيداً أن رائحته لم تكن كريهة وحادة كما تكون بالعادة رائحة الشحاذين. فانتبهت للأمر وهربت إلى مسرح «البيت» بحجة الوجود في المسرح لئلا أستطيع المساعدة كما قلت لجمانة التي قالت لي بأن عملي في دهن الديكور قد انتهى. فرددت بأني أرغب في المساعدة بأي شيء، حتى ولو بتقديم القهوة والماء إلى الممثلين والتقنيين، فابتسمت إلى حد الضحك البسيط قائلة: أوكي شكراً.
بعد لحظات رأيت كرسياً أو شيئاً آخر ليس في المكان المناسب على خشبة المسرح فخطوت وتناولتها سائلاً جمانة أين تريد أن أضعها فطلبت أن أضعها جانباً خلف الستارة الداخلية. كما سألتها عن مكان غرض آخر فأشارت أن أفعل كذا ففعلت. وهكذا دواليك قمت بعمل لم يكن وارداً لا في بالي ولا في بال جمانة. وهذا ما جعلني غائباً طوال يومين عن البيت، ولم أر ذاك الشحاذ «المخابرات» ماذا فعل وكم ساعة نام. لكن في صباح اليوم التالي رأيت وسادة في الزاوية ما بين البابين، وهي لم تكن لا وسخة ولا نظيفة، فانشغل بالي أكثر! حينئذ قررت أن أُخبر حوالى خمسة رفاق من منظمة الحزب الشيوعي اللبناني في نيويورك العاملين تحت اسم لجنة أصدقاء المقاومة الوطنية اللبنانية. وبخاصة الرفيقين منير وأسامة. قصدتهما وأخبرتهما باتصالي بمحطة ABC و«البيت الأبيض» طالباً المساعدة وبخاصة بعد نوم ذاك الشحاذ على مدخل المبنى الذي فيه غرفتي. فنظرا إلي مذهولين وغير مصدقين. لكن متابعتي في «التخبير» وكأن ما أخبرتهما إياه قد نال موافقتهما، وجعلهما في حالة شبه مستمرة بأخذ النفس لاستيعاب وسماع ما أقوله. وحين رأيت التعجب قد طغى على ملامح وجهيهما حاولت أن «أطمّن» بالهما بأني قد تصرفت من عقلي و«لحالي بحالي». وحين سكت كي آخذ نفساً عادا يسألانني كيف حصل ما حصل ولماذا فعلت ما فعلت؟ وهل لي علاقة مع الخاطفين؟ وبسرعة رددت بالنفي مطالباً ومتمنياً بأن يصدقاني ويساعداني. فقالا لي وهما بحالة تشبه الذهول بأنهما سيفكران في الموضوع ولا يعرفان كيف من الممكن مساعدتي، على أن نلتقي بعد أسبوع.