كتاب " من وراء البحر " ، تأليف د. أحمد محمد المعتوق ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب من وراء البحر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

من وراء البحر
والشاعر الحقيقي الأصيل يتجه للمشاركة الحميمة مع المجموعة بطبعه وبمحض إرادته، ويجعل تجربته الشعرية تنمو نمواً عضوياً في حضنها وفي الأجواء التي تحيط بها. لذلك فهو لا يحتاج لأن يوجه إلى هذه المشاركة ولا أن يسأل عنها، أو أن تفرض عليه، بل إنه يأبى أن يوجه إلى موقف شعوري معين مرتبط بمجموعته أو بمحيطه، أو أن يقاد إلى طريقة أو أسلوب محدد للتعبير عن هذا الموقف أو ذاك. فهو وحده الذي يرسم صورة موقفه، ويختار طريقة التعامل مع هذا الموقف، وبحسب ما يمليه عليه إحساسه. وهذا هو معنى الالتزام الحقيقي، الالتزام الذي لا يخضع فيه الشاعر لإلزام من خارج الذات، وإنما يلزم نفسه بنفسه ليصدق مع ذاته ويخلص لقضيته ويمارس حريته على الوجه الأكمل.
ولئن قيل: إنَّ لجهة ما كفوءة أو مخلصة ناصحة أن تضيء للشاعر المبدع مسارات ربما كان غافلاً عنها، أو تشير عليه باتخاذ قرارات تردد فيها، فإن ذلك من باب التجوز والافتراض أو الحفز والتنبيه. وإلا فلن يستطيع أحد مهما علا شأنه وارتقى مقامه أن يختار للشاعر الأصيل موقفه الشعوري أو زمن هذا الموقف أو كيفية التعبير عنه. حتى ذلك الناقد الحاذق القدير، لأن الناقد إن كان يشبه الشاعر فالشاعر الحقيقي هو في الأصل ناقد قدير أيضاً، والأمر مرتبط بالإحساس، والإحساس بصمة مرتبطة بتكوين الذات نفسها.
وبناء عليه يصبح من الغريب أن يطلب من الشاعر الحر كتابة قصيدة في مناسبة لا مكان لها في وجدانه. أو في وصف حدث لم يتصور في أعماق شعوره، أو ذكر واقعة لم تتفاعل أصداؤها في نفسه، أو أن يحدد له زمان قصيدته أو مكان هذه القصيدة أو نوعها وطولها أو نمطها وقافيتها ورويها، أو غير ذلك مما هو مبني في الأصل على نشوء الموقف وعلى نموه وتبلوره وتحوله إلى تجربة الشعرية. هذه أمور غيبية تفرض نفسها بنفسها وتختار زمانها ومكانها ومساحاتها.
أما ما يصنعه المداحون والندابون وتجار السياسة وبائعو المجاملات والمهرجون المأجورون أو المرتزقة باسم الشعر، فهذه كتابات لا تصلها بالشعر إلا روابط الإيقاع، ولا تنتسب إلى الفن إلا بضبط قياسات الكلمات ومساحات التعبير، وليس بعد ذلك إلا وجوهٌ مقنعةٌ وأجسامٌ محنطة وقوالب تعبيرية مصطنعة. وهذا هو الفرق بين كتابة الشعر وصناعته، أو بين ما سماه النقاد العرب القدامى بالشعر المطبوع والشعر المصنوع. وإن كان ذلك لا ينطبق على كل ما يفهم من صناعة الشعر .
مدح المتنبي سيف الدولة الحمداني فكانت مدائحه له سبباً في خلود شعره، وفي تخليد ذكر ممدوحه، لأن هذه المدائح كانت نابعة من قناعة ذاتية، ومن مواقف تفاعلت أصداؤها في نفس الشاعر بصدق وكان لها مكانها الحقيقي في وجدانه. ومدح المتنبي نفسه كافوراً الإخشيدي، ثم ذمه، فلم يخلد المدح كما خلد الذم، لأن الذم كان هو المعبر الحقيقي عن واقع الذات. فلم يك الشاعر ليؤمن في قرارة نفسه يوماً بأن عبداً مملوكاً تسلط بالبطش والقهر على ملك سيده جدير بالمدح. وإنما حكمت المنافع المادية الوقتية بذلك. ولذلك كانت قصائده في مدحه مصنوعة لا رواء فيها، ولأنها كذلك فقد نسيها الناس أو كادوا، بينما غدت قصيدته الدالية في هجاء كافور مثلاً تردد ذكره الأجيال.
وليبدع الشاعر الحقيقي قصيدته، لابد له من أن يفكر بطريقة شعرية، والتفكير بهذه الطريقة يتنافى مع التفكير المنطقي الذي يخضع للضوابط المقررة والمقاييس العقلية أو المعيارية الموضوعة، وإذا كنت لأمر افتراضي أو جدلي ما تستطيع أن تطلب من أحد أن يفرح لفرحك أو يحزن لحزنك ويتأثر وينفعل كما تتأثر وتنفعل، فإنك لن تستطيع أن تطلب من شاعر مبدع حر أن ينظم لك قصيدة أصيلة في غرض تختاره أنت، أو موقف شعوري أو فكري أو نفسي أنت تحدده، كما يفعل الملوك والأمراء والرؤساء مع صناع مدائحهم. إن منطلق القصيدة الشعرية الحقيقية هو فرح الشاعر أو حزنه وانفعاله وتأثره هو ذاته. ولن يفرح أو يحزن أو يأسى أو ينفعل فيها بالنيابة عن أحد.
وعندما يقال أن الشاعر صوت عصره. ولسان قومه، وضمير مجتمعه الناطق الحي، والمعبر عن أحزانه وأفراحه وآلامه وآماله، فهذا لا يعني أنه الناقل لمشاعر الجمهور نيابة عنهم، وإنما يعني أنه المعبر عن مشاركته الفعلية الصادقة لهم.
إن الشاعر المبدع يعيش عصره، ويتفاعل مع الجمهور الذي يشاركه في حياته بحس مرهف وحيـويـة فاعلـة متناميـة، ويعيش آلام هذا الجمهور ويشاركه في همومه وأحزانه بوجـدان يقـظ حي متفـتح، فإذا ما عبر عن هذه المشاعر فإنمـا يعبـر عن تجربـة وجدانـية ذاتية ذائبـة في تجـربة المجموعة بأكملها. وهو الأقدر على تجسيد هذه المشاعر ونقلها أو التعبير عنها، لأنه الأقرب إليها أو الأسرع إلى تحسسها والأكثر في تمثلها واستحضارها وبالتالي فهو الأصدق في التعبير عنها.
وليرى قارئ الشعر الرفيع قضيته فيما ينظمه الشاعر المبدع الأصيل، ويجد نفسه حاضراً فيه بروحه وقلبه وإحساسه، ويشعر بروعة الاجتماع وجلال الإبداع في إبراز صورته مندمجة في كيان المجموعة. لابد له من أن يصغي إلى هذا الشعر في دعة وطمأنينة وصفاء حسي وروحي خالص، ويستقطر أبياته أو عباراته في حياد يستبعد معه كل حكم مسبق. ويتوجه إليه بوعي يفرق فيه بين حقيقة الشعر وحقيقة الخطاب الذهني الذي يعرض الحقائق مكشوفة عارية. لا يستمع إلى ما تقول أبياته وعباراته بقدر ما يستشعر الحركة الخافية في كلماتها ويتحسس همسات تراكيبها ونبضات حروفها.
* * * * *