أنت هنا

قراءة كتاب من وراء البحر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
من وراء البحر

من وراء البحر

كتاب " من وراء البحر " ، تأليف د. أحمد محمد المعتوق ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

لا يتوقع قارئ ما بأن يرى في قصيدة الشعر ما يراه في قطعة النثر: معان ظاهرة، وعواطف مكشوفة وقواعد فلسفية ثابتة ومثل أخلاقية مبسوطة. ولا يتوقع أن يرى النقاط على الحروف والعبارات تحكمها مقاييس العقل وقوانين المنطق أو يقيدها نوع من التسلسل أو التدرج والترابط أو التحديد. هذه الاعتبارات أو القيود لا مكان لها في الشعر، وهذا هو الفرق بين مثالية النثر وواقعية الشعر بما هو شعر في حقيقته.

الخطاب الشعري لا يعبر عما يسنه الفكر ويحكم به العقل، ولا يستند إلى نظام لغوي ثابت محدد، يسمح بالمحاسبة والتدقيق والقياس. والشاعر لا يتكلم بمنطق الحروف والكلمات على النحو الذي يصنع الناثر أو متكلم اللغة العادي، وإنما هو يخيل ويصور، ويستنطق اللاوعي، ويستجمع ما تستحضره أحاسيسه من جزئيات مجهرية دقيقة، ُثم يرسمها ويبثها ويرسلها بطريق الإيحاء على شكل تلميحات وإشارات وشفرات تترك للمتلقي الفطن، ليفكها ويستحضر تفاصيلها في مخيلته، وفقاً لما تمليه روحانية التلقي لديه وما يفرضه عليه تأثره بعناصر الخطاب وتفاعله مع هذه العناصر، ثم على مقدار ما لديه من قابلية النفاذ والاستشراف والكشف، وليس لذلك كله من صلة بمنطق اللغة المعتاد.

إن الشعر الحقيقي كأي فن من الفنون الراقية، هو خطاب الروح إلى الروح، والتفاهم بين الأرواح لا يتم عن طريق العقل ولا عن طريق العلاقات اللغوية التي نحتها وشكلها هذا العقل، وإنما يتم بالمشاركة الشعورية وحدها، فعن طريق هذه المشاركة تخترق الحجب وتبدأ عمليات الإشراق والتراسل والاستبطان والتأثر اللاواعي، وتتحاور وتتجاوب الأحاسيس عبر نشاط داخلي صاعد أمين. حتى تنقاد النفس إلى النفس انقياداً قد يتعالى عن التفسير أو التحديد والرصد.

والشعر نفحات روحية سحرية نابضة، تشع بالمعاني ولا تعرضها، وتوحي بالأفكار ولا تصرح بها، وترمز إلى الحقائق ولا تتحدث عنها، وتنقل المشاعر والأحاسيس والرؤى والمواقف عبر مسارات سرية جاذبة، على المتلقي أن يرصدها ويكتشفها ويكتشف جاذبيتها ويصل إلى غاياتها. وليتمكن هذا المتلقي من تحقيق كل ذلك، لابد له من أن يمتلك الأدوات الكافية التي تمكنه. وامتلاك هذه الأدوات ليس بالأمر الهين. وإلا لما كانت للشعر أو الفن خصوصيته، ولا كان لمتذوقيه اعتبارهم الخاص المميز. ولا كان هناك شروح وتفسيرات مختلفة للأشعار وغوامض الفن، ولا كان هناك في النهاية خلافات ومنازعات في شأنها وشأن مضامينها ومدلولاتها وقيم الإبداع فيها.

عندما يشعر قارئ الشعر الرفيع بأنه كلما قرأه ازداد تعلقاً به، وكلما اقترب منه ازداد شوقاً إليه، وكلما تذوقه تعاظمت نشوته ومتعته به. وأنه يقرأه المرات العديدة فيستجلي في كل مرة معاني لم يعثر عليها من قبل، ويستشف صوراً ومشاهد جديدة تزيد من إحساسه بلذة الفن، وتجدد نشاطه أو تضاعف من فرحته بالاكتشاف، وتُشعره بأن في غموض هذا الشعر ومضات دافئة وروائح زكية، تستحثه على إدمان قراءته أو ترديد عباراته في محضره وخلوته. عندما يشعر هذا القارئ بكل ذلك يكون حينها قد تأكد أنه غمر بتلك النفحات السحرية الباهرة، وأنه وقع على تلك المسارات السرية التي توصله إلى الكنز.

والقول بضرورة أن يمتلك المتلقي الأدوات الكافية التي تمكنه من إدراك تلك النفحات السحرية الغامرة والوقوع على المسارات التي توصله إلى ذلك الكنز المخبأ، لا يعني بأية حال من الأحوال أن ننسى دور الشاعر في جعل أدواته حية ناطقة سارية المفعول. إذ لا يصح أن يوغل هذا الشاعر في سد منافذ التواصل ويبالغ في تضييق مسارات التفاهم الروحي أو الشعوري أمام المتلقي، وعندما يفشل المتلقي في اختراق هذه المنافذ والوصول إلى هذه المسارات يتهم بالعجز أو القصور. ويبقى الشاعر في مأمن من التهمة أو العيب.

لا يمنع أن يكون السبب في انعدام السلاسة في التواصل بين الشاعر والمتلقي هو انغلاق روح الشاعر وتعقيداتها، أو تنحية هذه الروح عن عفويتها والانحراف بها إلى دهاليز معتمة، أو عجز الشاعر نفسه عن إحكام صنعته أو عن امتلاك أدوات هذه الصنعة.

الشعر الرفيع مبرقع خفي الدلالة بطبيعته، ولكنه قد يكون مبرقعاً لخلل في رؤية الشاعر أو لفقر في لغته ونقص في أدواته. وقد يكون مبرقـعاً بأقنـعة سوداء حالكة لا يمكن أن يخترقها الضوء. وحينئذ لا يشفع له الخـفاء والامتـناع، لأنه سيصبح عصيـاً على الرؤيا والكشف، وما لا يرى ولا تستشف دواخله وأسراره لن يكون له جمهور. بغض النظر عن مقدار هذا الجمهور أو نوعه. وإذا فقد الشعر جمهوره كلية فقد دوره المؤثر، وإذا فقد دوره المـؤثر انتفت أو كادت تنتـفي مبررات وجـوده، ولا عليـنـا بمن يقول: «لو لم يكن للشعر من الجمهور إلا واحداً لكفى».

ينبغي أن تكون للشاعر رؤيته الفنية الأصيلة التي تنبثق من واقع حياته وعصره ومحيطه الاجتماعي أو الإنساني. عندها ستكون هذه الرؤية شفافة متبلورة في أعماق الذات مشرقة في أرجاء النفس وسينعكس هذا الإشراق على واقع التجربة الشعرية فتكون معبرة وصادقة، مشعة مهما كانت الغلالة التي تكتسيها. أما إذا كانت هذه الرؤية مجـتـلبـة أو منتحلة أو مقحمة فلا ينتظر أن تسيغها النفس ولا أن تصدق في بلورتها وتمثيلها أو الإيحاء بها، وسوف يرتد ذلك على واقع التجربة فتصبح مضطربة مشوشة كثيرة التضاريس، وربما جاءت معتمة مستغلقة .

التواصل الروحي بين الاثنين الشاعر ومتلقي الشعر إذن قائم في فاعليته وأثره على امتلاك الطرفين أسس هذا التواصل ومقوماته: صدق التجربة ونضجها ودفؤها وحيويتها ووضوح الرؤية وأصالتها وصفاء السليقة وطواعية اللغة وروعة البيان وقابلية الإبهار والجذب لدى الشاعر.. مقابل انفتاح الروح واتساع الأفق ورحابة الخيال ورهافة الحس وصفاء الذوق وقوة الاستيحاء والاستشراف والتبين لدى المتلقي.. هذا مع التأكيد على ثقافة عالية في اللغة في إطارها العام الذي يجمع بين اللفظ والصوت والحركة والصورة والضوء.. ثقافة مشتركة تسمح للشاعر بالدوران الحر واستجلاء آفاق النفس والكشف عن أسرارها. كما تأذن للمتلقي باختراق فضاءات الشاعر والتحليق معه أو الاقتراب منه ورؤية ما يشع أو يرف أو يهمس أو يهتف أو يتحرك في هذه الفضاءات.

الصفحات